مبادرةُ الحوثي نخوةٌ وأصالةٌ ونبلٌ شهامةٌ
د. مصطفى يوسف اللداوي
لا يملك الفلسطينيون جميعاً إلا توجيه الشكر والتقدير للشعب اليمني العربي الأصيل، الذي انبرى بغيرةٍ عربيةٍ، وشهامةٍ رجوليةٍ، وحكمةٍ يمانيةٍ، ومسؤوليةٍ قوميةٍ، وأمانةٍ دينيةٍ، في خطوةٍ جريئةٍ كريمةٍ، وسابقةٍ عربيةٍ نبيلةٍ، تنم عن أخلاق الشعب اليمني العظيم، الذي ما انفك يحب فلسطين وأهلها، ويضحي في سبيلها وينصر شعبها، على لسان زعيم حركة أنصار الله عبد الملك الحوثي، بدعوة حكومة المملكة العربية السعودية للإفراج عن عشرات المعتقلين الفلسطينيين في سجونها بتهمة الانتماء إلى حركة حماس، ودعم وتأييد حركاتٍ إرهابية، وعرض مقابل الإفراج عنهم جاهزية بلاده لإطلاق سراح طيارٍ وأربعة أسرى من الضباط والجنود السعوديين، الذين شاركوا في قتل الشعب اليمني وحصاره، وتسببوا في قتله وتجويعه وعذابه.
تمنى عبد الملك الحوثي على القيادة السعودية قبول العرض والمبادرة إلى سرعة تنفيذه، إن كانت تحرص على حياة ضباطها وجنودها، وتريد أن تستنقذهم من الأسر وتعيدهم إلى عائلاتهم وذويهم، وترغب في التراجع عن خطأها وتصحيح ما أقدمت عليه سلطاتها، إذ أن اعتقال الفلسطينيين بتهمة العمل من أجل قضيتهم ومساندة شعبهم جريمةٌ مقيتةٌ، وفعلٌ قبيحٌ، وعملٌ مخزيٌ، وسلوكٌ خبيثٌ، وخطأٌ فاضحٌ لا يغفر لهم بسببه، ولا يسكت عنهم من أجله.
إذ لا يرُضي اعتقالهم أحدٌ غير العدو الذي فرح بما قامت به السعودية تجاههم، بينما غضب العرب والمسلمون الأحرارُ لما أصابهم، و أحزنهم ما تعرضوا لها، وإساءتهم محاكمتهم وسوء معاملتهم، وأعربوا عن رفضهم للسياسة السعودية الجديدة تجاه المقاومة الفلسطينية، وطالبوها بالتراجع عنها توبةً وإنابةً وندماً وأسفاً، فما قامت به عيبٌ بكل المعاني، وغير أخلاقي في ديننا، ومنافي كلياً لقيمنا، فهو فحشٌ كبيرٌ يخرم المروءة، ويخل بالشرف، ويجرد من القيم، وربما يخرج مرتكبه من الملة ويطرده من الأمة.
لا أجد مبرراً قيمياً ولا مسوغاً أخلاقياً لأولئك الذين استنكروا على اليمنيين مبادرتهم، واتهموا الذي أطلقها بالانتهازية، وأن له مآرب سياسية ودوافع ومصالح خاصة دفعته لإطلاق هذه المبادرة، وقالوا بسوء نيةٍ أنه يوظف مبادرته لخدمة إيران وإرضاءً لها، وأنها هي التي طلبت منه إطلاق هذه المبادرة لتحسين صورتها والخروج من أزمتها، واعتبروا أن عرضه المقدم يسيئ إلى المملكة العربية السعودية ويشوه صورتها، ويضعها في نفس الدائرة المقيتة مع الكيان الصهيوني، الذي تجري معه المقاومة العربية عموماً صفقات تبادل أسرى على مدى سنوات النضال كلها، يجبرونه فيها مكرهاً صاغراً ذليلاً على الإفراج عن مئات الأسرى والمعتقلين العرب والفلسطينيين، مقابل بعض أسراهم أو رفات جنودهم وبقايا أشلائهم.
ألم يكن جديراً بمن أطلق عقيرته منتقداً، وأسأل حبر قلمه مهاجماً، وظهر بصورته وصدح بصوته على شاشات الفضائيات غاضباً، وسمح لنفسه بالتشكيك في صدقية أصحاب المبادرة، وطعن فيهم وأخذ يكيل إليهم الاتهامات الباطلة جزافاً، أن يعترف أن الحكومة السعودية هي التي أخطأت وأساءت، وأنها هي التي ارتكبت هذه الحماقة واقترفت هذا الجرم، وأنها التي وضعت نفسها في هذا الوضع الحرج، فأضرت نفسها وأحرجت مؤيديها، وأساءت إلى سمعتها، وصنفت نفسها بإرادتها وعن سابق قصدٍ وتصميمٍ منها حليفة للعدو الصهيوني وصديقةً له، الذي فرح لإجراءاتها وسعد بسياستها وأيدها وشجعها عليها.
ألم يكن حرياً بهم أن ينتصروا لدينهم وينحازوا إلى قيمه النبيلة ومفاهيمه الإنسانية الرفيعة، ويتصالحوا مع ضمائرهم ويحيوها من مواتٍ يستعيذ من عيبه الموت، ويطلبوا من الحكومة السعودية الإفراج غير المشروط عن المواطنين الفلسطينيين، الذين تشهد دوائر الدولة الرسمية أنهم لم يخالفوا قوانينها، ولم يرتكبوا جنحةً فيها، أو مخالفةً لنظمها، وأنهم كانوا مقيمين شرعيين، خدموا البلاد وعملوا في مرافقها كأفضل مما عمل أبناؤها، وكان لهم فضلٌ كبير في تنشئة أجيالهم وتربية أبنائهم، وساهموا في تعمير بلادهم ورفعة أوطانهم، وتطوير بنيتها المدنية والفكرية والثقافية، وأنهم كانوا جزءاً من النسيج الاجتماعي العربي المسلم للشعب السعودي العزيز، فادعوا من ناصرتم بالباطل إلى التوبة والإنابة، ولا توبة إلا بإعادة الحق إلى أهله وتعويضهم، وإبداء الندم عما اقترف بحقهم، والاعتذار منهم وطلب السماح منهم.
أيها السادة الغيارى على الأمة وقيمها، والأمناء على آمالها وأحلامها، كونوا شجعاناً أقوياء صادقين مخلصين، وضعوا مخافة الله عز وجل نُصْبَ أعينكم، وقولوا كلمة الحق ولا تخافوا، وقفوا مع المظلوم ولا تترددوا، وأغيثوا الملهوف ولا تقصروا، وانصروا الضعيف ولا تجبنوا، وامتازوا اليوم بمواقفكم وأروا الله عز وجل صدق نواياكم وجريء أفعالكم، وإياكم أن تساووا بين من سعى لخلق الفرح في قلوب الفلسطينيين البؤساء، وزرع الابتسامة على وجوه أطفالهم ونسائهم التعساء، وانتصر لهم وأيدهم في قضيتهم، واعتبر مقاومتهم جهاداً ونضالهم شرفاً، كمن بكاهم وأحزنهم، وآلمهم وعذبهم، واضطهدهم وحاكمهم، وصنف مقاومتهم ارهاباً، وعدّ نضالهم عدواناً، وارتضى أن يكون مع العدو ضدهم، يشبههم في فعله ويبزهم في ظلمه، ويسبقهم إلى رقابنا بسيفه.
أيها السادة هل تغير الزمان وتبدلت القيم واقتربت الساعة وأصبحنا نعيش في نهاية الزمن، إذ بتنا ننهى عن المعروف وندعو إلى المنكر، وأصبحنا نُقْبِلُ عن الشر ونتجنب الخير، ونحرض على الفحش ونسكت عن الشرف، ونشجع على الرذيلة ونحارب الفضيلة، فاعتقال الفلسطينيين وتعذيبهم رذيلة، والدعوة إلى تحريرهم والإفراج عنهم فضيلة، و الذين يعتقلونهم يفتقرون إلى أبسط مفاهيم الأخوة و معاني التضامن، والذين يسعون لخلاصهم ونجاتهم هم أهل الشرف والمروءة، وأصحاب السؤدد والفضيلة، وغير هذه المعايير اعوجاج وسواها انحرافٌ.
بيروت في 2020/3/28