أقلام الوطن

ثمانية عشر عاما على أسطورة جنين: للذاكرة وللأجيال

 حتى الرصاصة الأخيرة .. وحتى الرمق الأخير .. وحتى النفس الأخير

 

نواف الزرو* 

 

كي لا ننسى، للذاكرة وللأجيال وللمستقبل، نواصل استحضار معركة جنين الاسطورية، فها هي جنينغراد تعود بين آونة وأخرى لتحتل المشهد المقاوم للاحتلال مرة اخرى، فلا ينقضي يوم تقريبا دون ان نتابع  حدثا او عملية او عنوانا يتعلق بجنين، فتعود بنا الأحداث مرة ثانية وثالثة الى واقع المدينة لنستذكر تلك المعركة الاسطورية في المخيم، حيث خاض الفلسطينيون هناك على أرض المخيم معركة كبيرة .. كبيرة .. مشرفة .. مشرفة ، أقسموا قبلها وخلالها على أن يقاوموا حتى الرصاصة الأخيرة .. وحتى الرمق الأخير .. وحتى النفس الأخير .. فاستبسلوا استبسالاً استشهادياً عظيماً لم يسبق أن شهدنا مثيلاً له على مدار الحروب والمعارك التي وقعت بين الفلسطينيين وحتى العرب مع دولة الاحتلال الإسرائيلي على مدى العقود الماضية…

فحينما تجمع الشهادات الحية واعترافات ضباط وجنود العدو وكذلك الوثائق والمعطيات على الارض على ان مواجهة المخيم كانت اسطورة عز نظيرها في تاريخ المواجهات والحروب مع دولة الاحتلال فان ذلك ليس عبثا أو مبالغة اعلامية …!

وحينما يجمع المؤرخون والمحللون حتى من صفوف العدو على” ان اسطورة مخيم جنين شهد لها العدو قبل الصديق وباتت منهاجا يدرس في المعاهد والجامعات العسكرية العالمية ، يتعلمون فيها أن ما حدث في مخيم جنين حقيقة وليس من نسج الخيال، يتعلمون كيف يصمد ثلة من الشبان أمام اعتى آلة عسكرية في العالم” فإن هذه الحقيقة الكبيرة ليست من نسيج الخيال الفلسطيني.

سطر أهلنا في المخيم مقاتلون ونساء وشيوخ وأطفال ملحمة بطولية صمودية أسطورية حقيقية اخذت تترسخ وتتكرس في الوعي والذاكرة الوطنية النضالية الفلسطينية والعربية على أنها من أهم وأبرز وأعظم الملاحم .

فباعترافات الإسرائيليين أنفسهم فقد ” كان مخيم جنين الموقع الذي دفع فيه الجيش الإسرائيلي الثمن الأبهظ / صحيفة هآرتس 7/4/2002 ” ، ولأن القوات الإسرائيلية فشلت تماماً باقتحام المخيم على مدى سبعة أيام كاملة، ولأن ” المعارك في المخيم كانت قاسية جداً ومثقلة بالإصابات ( في الجانب الإسرائيلي ) ، فقد قرر الجيش الإسرائيلي استخدام الجرافات العملاقة في هدم المنازل التي دارت فيها معارك ضارية ( و أخفقت القوات والدبابات في اقتحامها ) وعدم تطهيرها بواسطة إدخال الجنود إليها ، .. ولأن المقاتلين والمدنيين الفلسطينيين في المخيم أظهروا مقاومة أسطورية لم تكن في حسابات الإسرائيليين، إذ نجحت في تمريغ أنوفهم في الطين، وحطمت قدرة الجيش الأسطوري معنوياً .. فدفع الجيش الإسرائيلي بأرتال كبيرة من الدبابات والمدرعات والجرافات المعززة بغطاء جوي مرعب يتكون من أسراب مروحيات ” الأباتشي ” وغيرها، ومدججة بالنوايا والنزعة الانتقامية الرهيبة لدى ضباط وجنود جيش الاحتلال، الأمر الذي ترجم عملياً على أرض المخيم باقتراف أعمال القتل والتدمير بصورة مكثفة .. تلك الأعمال ترتقي إلى مستوى جرائم الحرب البشعة ..

فاقترف جيش الاحتلال المجزرة الشاملة في مخيم جنين: المجزرة الدموية الجماعية .. و التهديم والتدمير الشامل والترحيل الجماعي للمدنيين .. فضلاً عن اقتراف كافة الانتهاكات الجرائمية ضد الجرحى والمدنيين وقت الحرب، حيث عزلت قوات الاحتلال المخيم تماماً ، وقطعت الماء والكهرباء والاتصالات والمواد الغذائية ، كما منعت كافة أشكال الإغاثة الإنسانية للجرحى والأطفال والنساء والشيوخ ..

فكانت المجزرة الصهيونية شاملة ضد البشر والحجر…

قال بيار بار بانسي الصحافي العامل لحساب صحيفة لومانيتيه الناطقة بلسان الحزب الشيوعي الفرنسي الذي أمضى  48 ساعة في المخيم عند حاجز جلمة ” أنه بحسب العديد من شهادات الفلسطينيين فإن الجيش الإسرائيلي قام بدفن الجثث في حفرة الساحة المركزية للمخيم وردمها بالأسمنت”، وأضاف “أن وسط المخيم بات يشبه برلين عام 1945 نظراً لحجم التدمير الفظيع” .

ونستحضر في السياق بعض اعترافات جنود وضباط العدو، فقد اعترف أحد جنود كتيبة الهندسة العسكرية الإسرائيلية الاحتلالية التي شاركت باقتحام مخيم  جنين فجر الرابع من نيسان 2002 قائلاً :”إن الوضع هناك مرعب ، ومن الأفضل عدم الدخول إلى هناك “، وأضاف : “إننا ننتقل من بيت إلى بيت غير أنهم يقاتلون بشراسة”.

وجاء في تقرير لصحيفة يديعوت العبرية:”المسلحون الفلسطينيون لا يغادرون المخيم، وهم يقاتلون .. لقد زرعوا مئات العبوات الناسفة وأعدوا السيارات المفخخة .. و لديهم حوافز مجنونة ، و يقاتلوننا بشراسة ولا يتنازلون”.. وأضاف جندي إسرائيلي آخر واصفاً القتال في المخيم:”إن ما يجري هناك يشبه الغرب الجامح ، والجنود يستقبلون النيران الفلسطينية من كافة الاتجاهات، وفي كل الاتجاهات ، كما تتطاير عشرات العبوات الناسفة من فوق رؤوس الجنود .. والرصاص أيضاً يمر قرب رؤوسهم”.

وصرح قائد الفرقة الجنرال اييل شلاين لإذاعة صوت إسرائيل قائلاً :”لقد تعلم الفلسطينيون من المعارك و استخلصوا العبر، وأخذوا يخوضون معارك هي الاشرس حتى الآن”.

ووثق المحلل العسكري الإسرائيلي رؤوبن فدهتسور المعركة قائلاً :”أن من قرر احتلال مخيم اللاجئين في جنين قد أخطأ ليس فقط في تحليل المعطيات الإستخبارية، بل وأيضاً في فهم آثار القتال هناك، ففي كل الأحوال ستسجل هذه المعركة باعتبارها ستالينغراد الأمة الفلسطينية”.

إذن …وبشهاداتهم أيضاً: فقد دخل المخيم التاريخ من أوسع أبوابه، لأن قصة صموده وبطولة مقاتليه دفعت إلى قراءة ما حصل هناك، خاصة مع اختلاف موازين القوى وحجم الخسائر وشراسة المعركة وعنفوانها، وقصة الخدع والإشراك التي تميز بها مقاتلو المخيم، وفي النهاية قصة كل الشهداء، الذين قاتلوا حتى الرمق الأخير.

ولا تتوقف القصص والحكايات عند حد معين ففي كل زاوية وممر قصة، وتحت كل منزل مهدم وركام منثور بطولة شهيد التصق بالسلاح، هناك استشهد طه زبيدي، وهنالك استشهد شادي النوباني، وهنا استشهد الشيخ رياض بدير ، وهناك ايضا محمود ، ومحمد وغيرهم من المقاتلين الأبطال.

وهكذا .. يتحول مخيم جنين إلى رمز للبطولة الفلسطينية وأسطورة تتكرس في وعي وذاكرة الفلسطينيين والعرب على مدى التاريخ الراهن والقادم .

سارع مئات المواطنين الفلسطينيين إلى إطلاق اسم”جنين” على أطفالهم الجدد، وتحول الاسم إلى نغمة على كل لسان .

Nzaro22@hotmail.com

نواف الزرو

-اسير محرر امضى احد عشر عاما في معتقلات الاحتلال الاسرائيلي ، حكم بالمؤبد مدى الحياة عام 1968 وتحرر في اطار صفقة تبادل الاسرى عام 1979 . - بكالوريوس سياسة واقتصاد/جامعة بير زيت-دراسة من المعتقل. - كاتب صحفي وباحث خبير في شؤون الصراع العربي - الصهيوني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *