العولمة الكورونية
بروفيسور عبد الستار قاسم
حصلت وباءات عدة عبر الزمن مثل انفلونزا الخنازير وجنون البقر والطاعون وانفلونزا الطيور والكوليرا، الخ، لكنها جميعا بقيت محصورة ضمن نطاق جغرافي محدود، وفقط وباء كورونا أو كوفيد 19 كما يسميه بعضهم انتشر على اتساع العالم وأصاب الغالبية الساحقة من الشعوب. واجه الإنسان عبر التاريخ أمراضا عامة كانت تصيب كل الناس أو فئات واسعة من الشعوب مثل الحصبة وحمى الملاريا، لكنها لم تكن وباء بالمعنى الذي نراه الآن في كورونا. قبل تطوير الأمصال، كان كل الناس يصابون بالحصبة، وكانت قاتلة في كثير من الأحيان، لكن لم يتم تصنيفها كوباء لأن الناس كانوا يتوقعون دائما، وعلى يقين أنها تطال كل فرد مهما حاول الاختباء. وفي كل الأمراض التي كانت منتشرة تمكن الإنسان من تطوير الأمصال واللقاحات الفعالة التي وقت الناس في النهاية من شرورها وتبعاتها.
أُُخذ العالم على حين غرة بوباء كورونا وهو لم يكن مستعدا لمواجهته، حتى الدول الثرية والكبيرة ذات التقدم العلمي الهائل، وجدت نفسها في عجز عن المواجهة بسبب النقص في المستلزمات الطبية والصحية. وفرض الوباء نفسه على العالم ليكون حدثا تاريخيا مميزا ربما لن يتكرر. لم يواجه العالم بأكمله خطرا واحدا عبر التاريخ يهدد الجميع مثلما يواجه الآن. لقد عولم كورونا العالم رغما عن كل الدول والأمم، وأجبر الجميع على توحيد سلوكيات طبية وصحية لم تكن تخطر على بال كل الذين سعوا إلى عولمة العالم على ط رقهم الخاصة. أجبر كورونا العالم على اتخاذ ردود أفعال موحدة فخلت الشوار إلى حد كبير من الناس ومن وسائل المواصلات، وانصاع الناس لنصائح الأطباء وأوامر إدارات الدول، ولم يعد هناك مؤيد ومعارض وتحزبات وفئات متصارعة حول مواجهة هذا العدو المستجد لجميع الناس. ربما حصلت انتقادات لقادة وإداريين هنا وهناك، لكنها لم تكن مؤيدة لكورونا أو مدافعة عنه، وإنما كان يتمحور الانتقاد حول أساليب ووسائل المواجهة وتوقيتها وسرعة التصدي لها.
عجزت الولايات المتحدة على مدى أكثر من عشرين عاما عن عولمة العالم وفق مصالحها واهتماماتها، لكن كورونا عولم العالم بدون خطط أو استراتيجيات، وبدون مفكرين وأصحاب نظريات. لقد وحد العالم بالرعب الذي نشره على المستوى العالمي. وفي هذه التجربة الفريدة من نوعها، ومن المهم أن ندرس أهمية بناء الرعب الكلي لإجبار العالم على تغيير سلوكياته، وتطوير علاقات تقوم على مواجهة الأخطار بدل الانكماش إلى المصالح الخاصة التي تشعل الفتن والحروب بين الأمم. وفي ظل هذا الوضع العالمي، هناك ما هو متوقع من سلوكيات على المستوى العالمي مثل:
أولا: رفع درجة التعاون بين الدول بخاصة فيما يتعلق بمواجهة الوباء. كان من المتوقع أن تحطم الدول كل حواجز الافتراق الطبي والعلمي، وتفتح الأبواب لمد يد العون للدول الأخرى التي تحتاج مساعدة. حصل هذا في أكثر من موقع، لكن درجة التعاون بقيت تعاني من الانخفاض تبعا لعوامل الحقد والكراهية والتشفي.
ثانيا: رفع كل العقوبات التي تطارد بعض الدول وذلك لكي تتيسر لها كل متطلبات مكافحة الوباء بدون عوائق متعمدة على مستوى الدول. لكن هذا لم يحصل، وبقيت الولايات المتحدة على رأس المتمسكين بالعقوبات التي تساهم في النهاية في انتشار الوباء في كل مكان.
ثالثا: الاستنفار لمساعدة الصين لكي تتم محاصرة الوباء مبكرا. هذا لم يحصل إلا قليل منه، وبقيت أغلب الدول القادرة وهي الدول الاستعمارية تتفرج على الصين أملا بانهيارها اقتصاديا وماليا. ولم تشعر هذه الدول بالمصيبة إلا بعد أن غزاها الوباء.
رابعا: التعاون العلمي بين كل الدول. كان من المطلوب أن تفتح كل الدول خزائنها العلمية المتعلقة بالوباء والتجارب المخبرية لديها الخاصة بالأمصال واللقاحات، وألا تكون هناك أسرار علمية يمكن أن تؤخر التوصل إلى علاجات. لكن لاحظنا أن السباق بين الدول كان حول تطوير اللقاح لكسب الفوائد المادية والمعنوية. حصل بعض التعاون العلمي، لكنه لم يكن على مستوى المسؤولية، وبعض الدول مثل الولايات المتحدة حاولت استقطاب العلماء لتسجل سبقا علميا.
خامسا: مستوى التعاون بين الناس يتطور بصورة أسرع من تطور التعاون بين الدول. وهذا ما حصل إذ أن الناس في كل أنحاء العالم أحسوا بالخطر الجماعي، وأحسوا بالضائقة المالية التي يمكن أن تعاني منها الفئات الفقيرة فنشطوا بتقديم الدعم الغذائي وسد حاجات العائلات الفقيرة، وشكلوا اللجان التطوعية، وأخذوا يجمعون التبرعات ويقدمون الخدمات. بقدر إمكاناتهم.
هناك شعور بمسؤولية جماعية للتخلص من الخطر، لكن العديد من الدول التي تخوض صراعات دموية ما زالت في غيها، وعلى راسها الولايات المتحدة التي ما زالت تفرض عقوبات على عدد من الدول غير آبهم بالمعاناة التي يمكن أن تلحق بشعوب تلك الدول. وهناك دول التحالف السعودي التي ما زالت متمسكة بحربها على اليمن. وكذلك أمريكا التي تستفز شعبي العراق وسوريا. كما أن الحرب في سوريا لم تضع أوزارها بعد، وما زال الوضع السوري مرشحا لتجدد الاقتتال. وهناك فنزويلا التي ما زالت تحت التهديد والحصار.
ولم يمنع كورونا العنصريين من البوح بعنصريتهم. فمثلا وصف الرئيس الأمريكي الفايروس بالفايروس الصيني، ووزير خارجيته وصفه بفايروس ووهان. وسمير جعجع من لبنان دعا إلى عزل مخيمات الفلسطينيين والسوريين. وأطباء فرنساويون دعوا إلى تجريب الأمصال على شعوب أفريقيا ذات الجمال الأسود، والممثلة الكويتية الفهد دعت إلى إخراج الوافدين من الكويت. لا يخلو العالم من العنصريين لكن بعضهم لم يكن حذرا في تفوهاته العنصرية.
وفي كل الأحوال، على الفلاسفة وعلماء النفس أن يدرسوا باستفاضة هذه التجربة الإنسانية التاريخية عسى فيها ما يوصلنا إلى استنتاج حول ما يجب أن نفعله من أجل تحويل العالم إلى أسرة متضامنة متكافلة متضامنة. هل الإرعاب والخوف هما الوسيلتان الأنجع، أم أن دروسا نفسية يمكن استخلاصها من التجربة؟