التنمية بالحماية الشعبية في مواجهة كورونا (1-5)
د. عادل سمارة
مدخل
فرض وباء كورونا علينا جميعاً التعاطي معه كلٌ طبقاً لتخصصه وانتمائه. ولعل المجالين الأكثر إلحاحاً للتعاطي معهما هما:
- المستوى الصحي فرديا والطبي جماعيا
- والمستوى الاقتصادي.
سيكون حديثي في المستوى الاقتصادي حيث لاحظت بأن تركيز معظم الكتابات هو على المستوى العالمي للاقتصاد: حرب التجارة، حرب العملات، مؤامرة الحكومة العالمية لفرض العملة الرقمية وشراء الأصول عالميا قبل قتلها للدولار، واضطرار الراسمالية في المركز للاستيراد من الصين وقلقها من سيطرة أكثر للصين…الخ.
لا شك أن كافة هذه المساهمات في موقعها. لكنني وجدت، رغم أنني كتبت في المسألة الاقتصادية العامة، إلا أنني أشرت إلى وجوب التوجه للاقتصاد الإنتاجي العملي موقعياً وكتبت لمن يرغب أن يرسل إيميله لأرسل له كتابي الأخير في التعاونيات. (التعاونيات/الحماية الشعبية إصلاح أم تقويض للرأسمالية د. عادل سمارة الأرض المحتلة 2018). ذلك لأنني أزعم بأن الحماية الشعبية للاقتصاد وخاصة في بلدان المحيط هي آلية مقاومة لكل من الوباء ومخاطر النظام الرأسمالي العالمي حتى قبيل طبعته النيولبرالية.
في هذا السياق، سألني مذيع قناة (فلسطين اليوم) في حديث يوم 11 نيسان 2020 ماذا تقصد بموديل “التنمية بالحماية الشعبية”؟. وبالطبع، لا يمكن للمرء شرح أمر واسع كهذا في الدقائق الشحيحة للفضائيات. وكأن الحديث أساسا حول لقاء رئيس وزراء الحكم الذاتي مع ممثلي الدول حيث طلب منهم مساعدة الفلسطينيين في هذه الفترة.
كنت قد طرحت موديل التنمية بالحماية الشعبية منذ أكثر من أربعين سنة، وهو موديل ضد الرأسمالية والإرتباط باقتصاد الكيان وهو أعمق من الإعتماد على الذات…الخ. لكن لم يتم الأخذ به سوى شعبيا وعفويا في الانتفاضة الكبرى 1987 ولاحقا داسته اتفاقات أوسلو، ولم يتم حتى تدريسه في الجامعات.
واليوم، ولمواجهة الوباء الصحي و توحش الرأسمالية الغربية والتي قد تفرض على شعبنا الجوع كي تمرر صفقة القرن، كيف لا وكل بلد منها يتحوصل على نفسه بل ويختطف مساعدات مرسلة إلى بلد مجاور له، يصبح إنتاج الأساسيات الغذائية الموسمية مسألة حياة أو موت. وحتى لو فائض عن الحاجة حيث يتم تبريده وتجميده وتصنيعه…الخ.
وفي حالة المناطق المحتلة، فإن الوقت يكاد يمضي لزراعة هذه المحاصيل. وهذا أهم بكثير من الحديث عن تبرعات وسلة غذاء وموائد رمضان…الخ لأن هذه جميعها تتبع الإنتاج.
من أجل الفائدة والتحفيز، أرفق ملخصا لنظرية/موديل التنمية بالحماية الشعبية كنت نشرته في مجلة كنعان العدد 129 نيسان لعام 2007. ومحتوى هذا الملخص أوسع من الأرض المحتلة، أي يمكن الاستفادة منه تطبيقياً على صعيد عربي و/أو عالمثالثي، وهو مقدمة عملية لفك الارتباط.
د. عادل سمارة
الباب الأول: مقدمات
ما أن بسطت العولمة ملاءتها السوداء على البسيطة حتى خبا وهج التنمية فلم تعد تستأثر التنمية بأحلام القيادات الشابة في محيط النظام العالمي، وانسحبت كثرة من المفكرين الجذريين في خجل وخفر لتعيد إنتاج جوهر التنمية في افكار مدجَّنةِ تلائم هيمنة راس المال أكثر مما تخدم حاجات الأمم المضطَهَدة الغائرة باتجاه تبعية قد لا يكون هناك رادّ لها. أما الأكاديميا فتسامحت أكثر من الجميع لتمسح حتى مفردة الإمبريالية من مساقاتها و لتقدم لنا العالم كما لو كانت رأسماليته هي TINA تينا [1]، أو نهاية التاريخ وختام الجغرافيا [2]. فما من شبر إلا وترسمل أو خضع لرسملة تقول للتنمية “سلام عليك يا سوريا، سلام لا لقاء بعده- والكلمة لهرقل إمبراطور الروم بعد هزيمة الرومان”!
بحكم وجود الوطن العربي تحت مجهر العولمة، فهو بقعة تنفيذ كافة فظاعات راس المال العالمي، خشبة المسرح، وحيوان التشريح النموذجي حيث يُذبح ويُشرَّح ثم يحيا ليُذْبح ويُشرّح ثانية …ويبدو أنه سيظل هكذا إلى أن يسترق من الزمن لحظة فيحمل سكيناً.
سيكون من قبيل تبسيط الأمور وتسطيحها الإفتراض بأن الوطن العربي سيواجه العولمة بالقطرية والإقليمية وبآخر طبعاتهما “الدولة الوطنية”، بل إن طَبْعات التبعية والتجزئة هذه، ” مغنَّيات الجنِّ وحاملات” الطيب” للتبعية والتخلف. فالأمر أبعد من هذا كثيراً, فلا بد من وصفه بالجنون والمروق، وقد يُرجم، ذلك الذي يتحدث اليوم عن وحدة اقتصادية عربية كما كان الأمر في الخمسينات، فما بالك بالحديث عن الوحدة السياسية، بعد أن أقلعت القطريات العربية في مشروع من التبعية يكاد يبتلع حتى اللغة العربية لولا اضطرار الفضائيات لإسداء هذه الخدمة ربما غير المقصودة ولا المرغوبة. كما لم يعد هناك اي حديث عن التعاون أو التكامل أو الإندماج “بالطبع” الإقتصادي العربي.
وبالمقابل، ما أكثر البكائيات الإجتماعية والإقتصادية على الصبايا والشباب في هذا الوطن، الموصوفين بالضياع، والأُمية الثقافية و الانتمائية وحتى العلمية، وكأن الواصفين براء من التسبب في ما يصفون من عاهات!
تؤكد هذه الصورة إلحاح الواجب الملقى على أهل هذه المرحلة، وضخامته في نفس الوقت، إلحاح لا يحتمل التأجيل. بل يجعل من التأجيل خطيئة الجيل الحالي بحق أجيال المستقبل.
ما التنمية؟
ما التنمية إلا سهل ممتنع، سهل لأنه بحاجة لمساهمة كل فرد، وممتنع لأنه فعل جماعي في عصر الفردية المعولمة، حيث يفقد الفرد مواطنيته ولا يسيطر على عالميته. التنمية فعل إنتاجي/استهلاكي يدخل فيه كل مواطن، لكن قراره الأول والأخير سياسي، تكمن محدوديته في القرار السياسي ويكمن تنفيذه أو صَدُّهِ بيد المرء مهما ضَؤُلَ شأنه. يا لسَحر التشابه، فالتنمية كما التطبيع، بوسع كل مواطن المساهمة فيه، ولا ينجح إلا بمساهمة الفرد البسيط، فما اقوى البسطاء إذا توفر لهم مناخ الإنتفاضة وفرصة فعل المقاومة.
ولكن، ما العلاقة بين المقاومة والتنمية؟
في حقبة العولمة، تصبح المقاومة مشروع حفاظ على الوجود، والتقاط للمرحلة وتحكّمٍ بها، وقد تكون المشروع الوحيد. فالعولمة بما هي وريثة الإستعمار والإمبريالية هي حالة هجوم مدروس وشامل على الطبقات الشعبية في محيط النظام العالمي (قد نحصر الذكر بعد اللحظة في الوطن العربي لتسهيل الحديث). وبما أن العولمة وريثة الحقبتين السابقتين، فهي تحمل من سماتها الكثير، وليس اقلُّه العودة للإحتلال العسكري المباشر، بدءاً من غرينادا، وليس انتهاء بالعراق. في ظروف كهذه، تكون التنمية مقاطعة مع رأس المال كنمط إنتاج استغلالي يُعصرن نفسه دوماً داخل البلد الأم، أو في الخارج بإهابه القديم الإستعمار أو بَعدَهُ الإمبريالية،أو الحالي العولمة. فطالما التنمية مشروع جماعي للإنتاج، وجماعي هنا يشتمل كذلك على الإجتماعي، إلا أن الجماعي مقصود به إشراك واشتراك كل البشر في العملية الإنتاجية بوعي وليس بالصدفة ولا بالضرورة، بل بالضرورة الواعية. إنه اختيار حر من الطبقات الشعبية لإنتاج حاجاتها، وتحرير قرارها الاستهلاكي. ولذا، هي مشروع مقاطعة منتجات المركز الرأسمالي التي قضت على مواقع الإنتاج المحلية منذ قرون، وتجتث أولاً بأول القطاعات الإنتاجية المحلية كلما عاودت التجدد.
تعني التنمية كفعل شعبي واعٍ، و كنشاط جماعي مقاطعة منتجات كل ما ينافس هذا التوجه، وما يغمر السوق المحلية، وما يحول دون تفاعل الأسواق المحلية والإقليمية. فبمجرد القيام بأي فعل إنتاجي أو استهلاك واعٍ، يكون كل مواطن قد دخل في اشتباك مقاومة العدو الرأسمالي المتمثل في المركز. يكون كل مواطن قد أصبح مقاتلاً على الجبهة الإقتصادية. لكنه مقاتل مختلف هذه المرة. فبعد أن كان هدفاً مجانياً لعدوه، أصبح هدفاً مقاوماً، اي انتقل من السلب إلى الإيجاب.
وللتوضيح، فإن البضائع المكدسة في الأسواق العربية، والتي لا يجد المشتري المحلي مناصاً من شرائها، هي في معظمها مستوردة من الخارج، وأغلبها من بلدان تتسم بسمتين في منتهى الخطورة:
- فهي بلدان لها إرث استعماري في الوطن، أي لعبت دوراً مركزياً، وربما الدور المركزي في اجتثاث بؤر الإنتاج المحلي منذ قرون، أي خلقت التخلف واحتجزت التطور.
- وهي بلدان لا تزال معادية للوطن وأهله بدل أن يتم تغريمها كلفة احتجاز تطورنا[3].
إذن، فإن مقاطعة منتجات هذه البلدان هي مقاومة، لكنها مقاومة مشروط نجاحها بأن تبدأ كفعل تنمية لإنتاج ما تتم مقاطعته. ولإستبدال ما لا يمكن إنتاجه بعد، لإستيراده من بلدان صديقة، وخاصة التي تتعهد بشراء مما لدينا.
والتنمية بما هي مشروع مقاطعة منتجات معينة، وتغيير في مصدرها، هي مقاومة مؤكدة تنتظم في مواجهة أطروحات وسياسات و مقررات ومنظمات النظام الرأسمالي العالمي. إن فيض الحديث والأدلجة عن خطاب القرية العالمية، وتحرير التجارة الدولية، والخصخصة وإعادة التصحيح الهيكلي، وتوسيع القاعدة السياسية لأنظمة المحيط، والرعاية المبالغ فيها للقطاع الخاص…الخ هي آليات مضادة للتنمية تم فرزها وتشغيلها لصالح المركز الرأسمالي على حساب بلدان المحيط. أما إدخالها في بُنى اقتصاد المحيط، فتتم إما عبر قوى محلية ذات مصلحة متخارجة غير محلية، أو عبر احتلال مباشر.
بعض أطروحات النظام الرأسمالي العالمي
المناقضة للتنمية.
تجدر الإشارة إلى أن النظام الرأسمالي العالمي لا يعدم لاحتجاز تطور محيطه اي اسلوب ممكن أو يمكن توفره. فهو يعتمد في هجومه على ثلاثة جيوش على الأقل:
- القوة الإعلامية والثقافية والفكرية والإيديولوجية، وهي المشروع طويل الأمد لتخريب ثقافات الأمم الأخرى وتقزيم تراثها، وإيلاج ثقافة استهلاك المنتَج الرأسمالي الغربي وخاصة الأميركي سواء الفكري أو البضائعي. والقوة الإعلامية هي التي تقضي على روح المقاومة الشعبية وحتى الإعتراض مما قد لا يُحوِج المركز لاستخدام العدوان المسلح لإقتحام هذا البلد أو ذاك.
- والقوة العسكرية، وهي التي يلجأ إليها المركز في حالة فشل قوة العدوان الأولى، وهو ما حصل في بلدان عديدة منذ ثمانيات القرن الماضي، وخاصة ضد العراق.
- وتوظيف القوتين الأوليَيْن في خدمة القوة الثالثة والأساسية وهي الإحتلال الاقتصادي لبلدان المحيط بمعنى فتح اسواقها لصالح منتجات المركز بما يحويه ذلك من تقويض قطاعاتها الإنتاجية،
وإذا كان استخدام الغزو العسكري لخدمة الإقتصاد أمراً حسب الظروف والمتطلبات، فإن استخدام الإعلام والثقافة والإيديولوجيا والفكر هو استخدام دائم وما يلي بعض من أطروحات الطبقات الحاكمة في المركز:
القرية العالمية:
تعج أدبيات الراسمالية، ولا سيما تلك التي في المركز، بمدائح لما تسمى “القرية العالمية”، وهي مدائح ملخصها أن العالم عاد بلا أبواب ولا حواجز، خالطة بين العالمية والعولمة، وبين الاتصال والانتقال وبين كثيرات غيرهن. فالعالمية هي تواصل العالم مع بعضه البعض وتوارث الإنجازات من حقب سحيقة في التاريخ حتى اللحظة المعطاة، في حين العولمة هي حقبة من تطور علاقات الإقتحام والإستغلال الراسماليّيْن يقوم بها المركز ضد المحيط. والعالمية تشتمل على الإتصال بين بلدان العالم، لكنها لا تسمح بانتقال البشر من المحيط إلى المركز. ومن هنا، فالقرية العالمية منقسمة كما هو النظام الرأسمالي العالمي إلى مركز ومحيط، أو حارتَيْ “مركز القرية وهي الدول الغنية الإستعمارية، و أطراف القرية وهي بلدان المحيط”. والانتقال بينهما مسموح لأنبياء الشركات ولراس المال والسلع والخدمات وهذه جميعا في خدمة مركز القرية، أما قوة العمل فلا يمكنها الانتقال من محيط القرية إلى مركزها. ولا أدل على هذا من قراءة لأوضاع عمال المغرب العربي الذين يعيشون في فرنسا، هذا إذا لم نتنبه للمئات من المهاجرين تسللا في البحار والمحيطات فيغرقون دون الوصول إلى بلدان المركز ليعرضوا أنفسهم كعمالة بلا أدنى الحقوق و بأدنى الأجور، ومع ذلك، فهذه الحال هي “جنة” مقارنة بالعيش الذي هربوا منه و تسللوا! أما وشروط القرية العالمية على هذا النحو، فهي في الحقيقة، تبهيت لسيادة الدولة في المحيط، وتركيز لسيادة الدولة في المركز. وهذا ما يفتح على أكذوبة “تحرير التجارة الدولية.
تحرير التجارة الدولية:
يكمن في هذا العنوان لغز رأسمالية المركز. فحرية التجارة والنقل هي بسملة كتب أكاديميا الإقتصاد. لكنها بسملة يتبعها تضليل هائل، حيث مضمونها عكس نصوصها. فما يتعلمه طلبة الإقتصاد في مختلف جامعات العالم الرأسمالي يبدأ بمزاعم حرية التجارة، في حين أن سياسات دول المركز هي بدون مواربة سياسات حمائية وليست سياسات محررة. فما ندر أن فتحت دولة رأسمالية غربية حدودها مع بلدان المحيط حتى في ظروف استعمارها المباشر لبلدان من المحيط.
لقد امتلأت الكتب والصحف ووسائل الإعلام العالمية مؤخراً بالحديث عن “تحرير التجارة الدولية” ولا سيما نصوص منظمة التجارة العالمية. وكان من الطريف أن أول الخلافات على هذا التحرير هو رفض التحرير بين دول المركز نفسها، وخاصة الولايات المتحدة واليابان ودول الاتحاد الأوروبي، ليُفهم من هذا أمر واحد فقط هو:
إن على بلدان المحيط أن تفتح حدودها للقادم من منتجات المركز، أي إخضاع أسواق المحيط لانفتاح لا يقل عما كان عليه إبان حقبة الاستعمار المباشر.
وعليه، فالتنمية متعارضة بالضرورة مع تحرير التجارة الدولية، ومع نصوص منظمة التجارة العالمية ووصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومختلف المؤسسات العالمية الراسمالية الأخرى. فلا يمكن أن تستقيم تنمية، بما هي إنتاج، مع انفتاح اقتصادي يُغرق الصناعات الناشئة في بلدان المحيط، ويقود الزراعة فيها إلى الإفلاس.
سياسة التصحيح (التجليس) الهيكلي[4]
التصحيح، او “التصحيح الهيكلي” هو الاصطلاح الرسمي لصندوق النقد الدولي والذي يفسر البرامج المصممة لمعالجة مديونية العالم الثالث، والتي يسميها الجميع من ناحية عملية، برامج التقشف Austerity . يصر البنك والصندوق الدوليان على أن البلدان التي تعاني المديونية لا مناص لها من اتباع سياسة التصحيح. ولذا، سارت الامور على نسق: تصحيح، فاقتراض، فعجز تصديري، فاضطرار لاقتراض آخر… وهكذا..
قام صندوق النقد الدولي بتقديم وصفته الى 100 بلد مدين وهي تحرير التجارة والخصخصة حيث طبقت مختلف هذه البلدان تلك الوصفة في نفس الوقت [5] ، لكن اكثريتها الساحقة انتهت إلى كوارث اقتصادية وبالتالي اجتماعية.
وبينما يقوم التخفيض بإطلاق العنان للتضخم والى -دولرة- الأسعار المحلية، فإن صندوق النقد يجبر الحكومة على تبني ما يسمى البرنامج المضاد للتضخم. ويقوم هذا على تقلص في الطلب أداته فصل أعداد كبيرة من موظفي القطاع العام و تقليصات حادة في برامج القطاع الاجتماعي، وعدم وضع مؤشر للأجور. ولكي يحقق هذه لا بد من منع الاضرابات واعتقال القادة النقابيين. وعليه فإن مستوى الأجور في البلدان المدينة يصل الى اقل ب سبعين مرة من أجور عمال البلدان الصناعية المتقدمة.
الخصخصة:
وُلد اصطلاح الخصخصة للراسمالية في حقبة العولمة، وهو خلاصة تغلُّب راس المال الخاص، اي الطبقة الراسمالية على القطاع العام، أي شراء هذا القطاع من قبل راسماليين أفراداً. وكما يختلف معنى القرية العالمية في حالتي المركز والمحيط، يختلف كذلك أمر الخصخصة، واثر تطبيقها، أو شدة اثر ذلك التطبيق بين المركز والمحيط، هذا رغم أن الخصخصة هي هجوم على مصالح الطبقات الشعبية في النظام الرأسمالي العالمي بأجمعه.
ففي حين تم بيع المشاريع التي تشرف عليها الدولة في المركز إلى القطاع الخاص، كالغاز والإتصالات بقيت للطبقات الشعبية هناك حقوق اكتسبتها عبر نضالات طويلة، أبقت على وضعها الاقتصادي في نطاق مقبول، ولذا تجهد الطبقات الحاكمة هناك كي تقضم هذه الحقوق ولو تدريجياً، وهذا ما يمكننا تسميته الصراع الطبقي في المركز.
أما في المحيط، فالقصة مختلفة. فقد كان القطاع العام ضرورياً لهذه البلدان حينما عبرت حقبة الموجة القومية الثانية، أي موجة استقلالات المستعمرات. كانت دولة ما بعد الاستعمار فقيرة في مختلف المجالات ربما باستثناء الروح الثورية المفعمة بالأمل والناجمة عن الإنتصار على الإستعمار. في وضعية الفقر متعدد الجوانب كان على الدولة أن تمسك بالإقتصاد كي تنهض به لا سيما أن القطاع الخاص كان ضعيفاً، وكانت أنويته هي برجوازية تجارية اقرب إلى التخارج منه إلى التوطُّنْ. لذا، أقامت الدولة قطاعاً عاماً تمكنت به من تشغيل موسع لمن هم في عمر العمل. وبغض النظر عن ما اعتور بعض مشاريع القطاع العام من فشل وفساد، إلا أن هذا القطاع طالما حفظ للعاملين فيه دخلا مقبولا وكرامة إنسانية أرقى من ظروف العمل المأجور لدى القطاع الخاص.
إن الخصخصة في المحيط هي بيع القطاع العام بحجة أنه ليس منتجاً ولا ناجحاً، إلى القطاع الخاص، بما في ذلك ما تأكد أنه قطاع ناجع وعملي. أما الدولة، فهي التي تشرف على البيع وتقبض ثمن المبيعات، وتتصرف به لتسديد ما عليها من ديون. وبما أنها الدولة، فما من أحد بوسعه متابعة ما فعلت، وبالتالي فهذا البيع فرصة لممارسة الفساد وتوليد “القطط السمان”. أما ما يتبقى من ديون بعد البيع وما ينشأ من ديون بعد البيع، فتقوم الدولة بتحصيله من المواطنين على شكل ضرائب متصاعدة على الطبقات الشعبية وهو ما يسمى “تأميم الديون”، وأي تأميم!.
توسيع القاعدة السياسية لأنظمة حكم المحيط
ترافق مع حقبة العولمة مدخلاً جديداً لأنظمة الحكم في المركز كي تتدخل في الشؤون الداخلية لبلدان المحيط، هو مدخل “دمقرطة العالم”. فقد تمكنت هذه الطبقات من تنصيب نفسها كحاملة للواء الديمقراطية وحقوق الإنسان[6]، وخاصة بعد تفرد الولايات المتحدة بالقطبية العالمية. فقد سمح تفكك الإتحاد السوفييتي ودخول بلدان المحيط في أزمات اقتصادية ممثلة في مديونية عالية واضطرار للاستدانة بمقادير ضخمة، بأن تتدخل في الشؤون الداخلية وحتى الحياة اليومية لبلدان المحيط.
كانت البلدان العربية على رأس قائمة فضاء التدخل، ولا سيما بعد تدمير العراق عام 1991، وإغراق الجزائر في حرب أهلية، وضم اليمن الجنوبي اليساري إلى الشمالي القبلي، ودخول المقاومة الفلسطينية في شرك التسوية، أي إطفاء بؤر الممانعة العربية. حينها بدأ الحديث عن “شرق أوسط جديد” يبدأ بتوسيع قاعدة نظام الحكم فيه بحيث تضم القطاع الخاص والنخبة السياسية الثقافية الليبرالية. كان مظهر المطلب أن يكون نظام الحكم ممثلاً لقطاعات أوسع، ولكن جوهره كان ولا يزال هو إدخال القطاع الخاص إلى السلطة السياسية إلى جانب النخب السياسية الحاكمة التي هي حقاً ليست منتخبة، ولكنها ليست مأمونة بنظر أنظمة الحكم في المركز، بقدر القطاع الخاص الذي تراه جزءاً من النظام الرأسمالي العالمي، وبما هو في أغلبه كمبرادور فهو حليف مأمون لها ومدعوم من المثقفين الليبراليين المحليين. وينسجم إشراك القطاع الخاص في السلطة ، على الأقل، في التالي مع مصالح أنظمة المركز:
- فهو تقويض للقطاع العام كما اشرنا أعلاه،
- وهو إدخال فريق إلى السلطة تدفعه مصالحه، بما هو غير إنتاجي، للتخارج مصلحياً وثقافيا وسياسياً مع المركز.
- أما وهو على هذا النحو، فإن هذا القطاع لن يكون معارضاً للتسوية السياسية مع الكيان الصهيوني الأشكنازي.
[1] المقصود هو اختصار العبارة الرأسمالية الدارجة لإشاعة اليأس من تجاوز وحشية رأس المال بأن لا فرصة لأي بديل There is no alternative.
[2]قاد تفكك الإتحاد السوفييتي إلى هزيمة نفسية لكثير من الشيوعيين في العالم إلى الحد الذي أصبحوا معه أدوات لرأس المال، يعوون في فراغ روحي هائل حيث ارتدوا على ما صرخوا لأجله عقوداً طويلة، وبالتالي كانت ردتهم خطيرة كما كرة القدم المرتدة. وكل هذا متى؟ في الوقت الذي تغول وتوحش فيه رأس المال كقطب واحد. ترى، ماذا يقول هؤلاء اليوم لأنفسهم، ومقاومة راس المال تأخذ بعداً شعبياً شاملاً في أميركا اللاتينية وغيرها؟
[3] بدأت مؤخراً حركات واعدة تطالب المركز بالتعويض عن دوره المقصود في تخلف المحيط، وهذا أمر غاية في الأهمية لأن جزءاً كبيراً من تطور المركز كان من ما امتصه ونهبه وسلخه من المحيط. هذا ما حصل في ديربان في جنوب أفريقيا منذ بضع سنوات، وتمكنت الراسمالية المعولمة من إعاقته، ولكن إلى حين، ومطالبة الجزائر لفرنسا بالاعتذار عن الماضي الوحشي في الجزائر، ومطالبة جنوب شرق آسيا اليابان بالإعتذار، ناهيك عن الحركات المناهضة للعولمة والحرب. هناك حراك عالمي، بطيء، لكنه كما كتب الشاعر عبد اللطيف عقل: “أنا البطء الذي في بطئه…يَصِلُُ”.
[4] انظر عادل سمارة، البنك الدولي والحكم الذاتي: المانحون والمادحون، منشورات مركز المشرق/العامل للدراسات الثقافية والتنموية، رام الله.
[5] Third World Ressurgence, no 49 p17
[6] ليست المفارقة في أكاذيب أنظمة الغرب الرأسمالي فيما يخص زعمها حقوق الإنسان، وهي تذبح شعوباً بأكملها كما في العراق وأفغانستان، إنما الخطورة في المثقفين والساسة في المحيط الذين يصرون على إثبات الولاء للمركز مالا وثقافة وقمعاً وقتلاً ونهباً.
الجزء الثاني
الجزء الثالث
الجزء الرابع