كورونا يعرّي تشومسكي أيضاً
نشر موقع «Truthout» نصّاً مقتبساً عن كتاب «الأممية أو الفناء» لكاتبه نعوم تشومسكي، تحت عنوان «لا يمكننا أن نسمح للكورونا بدفعنا نحو الاستبداد»، مع بضعة تعديلات وإضافات على النصّ بما يتناسب مع التطورات الجارية إثر وباء فيروس كورونا المستجد عالمياً من قبل المؤلف نفسه.
يقوم تشومسكي في البداية بالإشارة إلى ما «سببه الفيروس» من أزمة اقتصادية وسياسية في العالم، ثم ينتقل إلى تشبيه مجريات العصر الحالية مع مرحلة الحرب العالمية الثانية وما قبلها، مقارباً «فاشية» ذاك العصر بظاهرة «اليمين المتطرف» في العالم اليوم، من الولايات المتحدة إلى أوروبا فالشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، فبعد ذكر عدد من الأحداث التاريخية والمواقف الأمريكية تجاه ألمانيا النازية، والتي وصفها بالـ«مختلطة Mixed ». ينتقل إلى الزمن المعاصر، بصعود ما سمّاه «الرجعية القومية المتشددة العالمية – ultranationalist, reactionary international» مع ما تشكله من تهديدات على «الديمقراطية» وبالتالي على مستقبل الجنس البشري ككل بوجود: التهديد النووي، وأزمة الاحتباس الحراري منذ عقود، ومؤخراً الوباء الفيروسي… خاتماً مقاله بمقارنة الوباء الحالي مع «الموت الأسود» أو وباء الطاعون القديم في أوروبا، معتبراً أننا سنتعافى منه كما تعافت أوروبا سابقاً، وعليه فالأولوية تبقى للتهديدات الأولى.
يخطئ تشومسكي في مقاله على نحوٍ واضح في تحليل جملةٍ من القضايا، إلا أنّ هذه الأخطاء، وضمن تطورات العالم اليوم، بنتائجها الموضوعية، وبتحليلات واستنتاجات مختلف القوى السياسية حول العالم، فضلاً عن رد فعل الشعوب اتجاهها، تجعل إشارة الاستفهام حوله أكبر مما مضى، بموقعه واصطفافه، وسنبدأ بتفنيدها واحدةً تلو الأخرى:
«كورونا» والأزمة الاقتصادية
ينطلق تشومسكي من الفكرة التالية ليبني عليها نصّه: «منذ أن تسبب وباء فيروس كورونا المستجد بقلب النظام السياسي والاقتصادي عالمياً رأساً على عقب، ظهرت إمكانية وجود عالمين كبيرين ومختلفين».
أولاً، إنّ «العالمين الكبيرين والمختلفين» لم يظهرا الآن، مع كل مرفقات هذين العالمين من صراعٍ طبقيّ وايديولوجي وسياسي، أما «إمكانية» قيام ووجود هذا العالم الآخر غير الرأسمالية، فقد كانت محددةً بشروطٍ موضوعية، وأخرى ذاتية لا يمكن لها أن تقفز عن سابقتها أبعد من التحضير النظري والعملي للحظة دفن العالم القديم وإحياء الجديد. واليوم، بتنا نحيا عملياً هذه المرحلة الانتقالية في التاريخ، في الوقت الذي تنبأت به مختلف القوى السياسية حول العالم قبل عقدين وأكثر، وكان واضحاً وجلياً وجود هذين «العالمين» منذ القرن الماضي، لكن، ثانياً، فإن تشومسكي يبني هذا الاستنتاج بالاستناد إلى القسم الأول من جملته، وهو جوهر المشكلة.
فهل «كورونا» سببٌ للأزمة الاقتصادية والسياسية العالمية، أم أن انتشاره نتيجةً لها ولمجمل النظام الرأسمالي؟
منذ الأزمة المالية في عام 2008، كان يتبارز ويتنافس المحللون الاقتصاديون الأمريكيون أنفسهم قبل غيرهم، حول موعد الأزمة المقبلة، وقد شهد عام 2019 أكبر قدر من التحذيرات التي أجمعت على قرب انفجار هذه الأزمة، وبعضهم حدد سنة 2020 فعلاً لها استناداً إلى معطيات التراجع الغربي وتأثير القوى الصاعدة على واشنطن اقتصادياً، مما سبب بتسارع هذه الأزمة… والآن، مع انهيار البورصات الأمريكية وخسائر واشنطن الفادحة، فليس من الصعب تتبع مسبباتها الملموسة الأخيرة على أقل تقدير، بانسحاب روسيا من اتفاقية أوبك، لتبدأ سلسلة دومينو الأزمة بالمضيّ قدماً.
كارثة الوباء الفيروسي في هذه الأثناء، قد جاءت بلاءً وذريعة في آن واحد على الولايات المتحدة، فمن جهة: تضع المنظومة الغربية أمام استحقاقات عالية ومباشرة اتجاه صحّة شعوبها والحدّ من انتشار الفيروس، لكن بظل عقدة «الربح» في الأحوال الطبيعية لن تستطيع تقديم الحدّ الأدنى، وفي الأحوال الطارئة كالتي تعيشها الآن، تدفعهم نحو «الاصطفاء الاجتماعي» كحلٍ مهلك. ومن جهة أخرى: فهو ذريعة للتستر على الأزمة الاقتصادية نفسها، وقلب الحقائق بجعل الوباء مسبباً للأزمة عوضاً عن فشل المنظومة الموضوعي والحتمي، وهنا يقف تشومسكي بعبارته مخدّماً لهذا الطرح.
الفاشية واليمين المتطرف
في مقاربته بين وقائع صعود «الفاشية» قبل 80 عاماً، وصعود «اليمين المتطرف» اليوم، يقوم تشومسكي ضمنياً بتبرئة سلوك الولايات المتحدة الأمريكية قُبيل وأثناء الحرب العالمية الثانية عبر ما وصفه بـ«المواقف المختلطة»، بعد أن يُحمّل جزءاً منها إلى جورج كينان، وهو القنصل الأمريكي في برلين باعتباره «كان يرسل تعليقات “مختلطة” حول النازيين، مقترحاً بأنهم ربما ليسوا بالسوء الذي يتحدث عنه الجميع»، ولتبدأ الخارجية الأمريكية، ومجلس العلاقات الخارجية، على تشكيل خططاً واستراتيجيات لمرحلة ما بعد الحرب، مُتقاسمين بذلك العالم شرقاً وغرباً بينهم وبين المانيا النازية، لكن جاء الروس وقلبوا الطاولة أثناء الحرب بقضائهم على النازية، مما دفع بالأمريكيين إلى تغيير خططهم.
موضوعة أن الامريكيين قد أهدوا الشرق إلى ألمانيا النازية في خططهم لكن الروس ردعوا ذلك، لا غبار عليها، لكن أن تكون هذه الخطط بسبب «تعليقات» بضعة أفراد، كالقنصل ذاك، او سوء فهمٍ من الأمريكيين لطبيعة هذه النازية، أمرُ لا يمكن أن يمضي مرور الكرام.
وينتقل تشومسكي إلى الفترة المعاصرة، بظهور «الرجعية القومية المتشددة العالمية» ذاكراً منها «تحالف الشرق الأوسط القائم على الدول الرجعية المتطرفة في المنطقة» السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر و«إسرائيل»، بالإضافة إلى أمريكا اللاتينية من البرازيل بقيادة بولسونارو، وصولاً إلى الإكوادور بقيادة مورينو.
مشكلة تشومسكي هنا، هي الفصل والقطع بين فاشية القرن العشرين النازية، وفاشية القرن الواحد والعشرين «الدينية والقومية»، واعتباره أن ما بين الفاشيتين هي مرحلة «ديمقراطية» باتت تتهدد بانتهائها الآن.
وهو محقّ بأن هذه «الديمقراطية» تنتهي، لكن ليس عبر «استعاضتها» بالشكل الديكتاتوري القادم من الفاشية، بل إن هذه «الديمقراطية الأمريكية» نفسها بدأت تظهر وضوحاً بجوهرها الديكتاتوري وبفعل الضرورة الناشئة في ظل الأزمة المتصاعدة ودون إمكانية تجميلها بعد الآن، وهي نفسها من تحتاج أشكالاً ايديولوجية متطرفة قومية أو دينية لاستخدامها لصدّ وقمع أي مُخالفٍ لمنظومتها وربحها، مثلما استخدمتها قبل 80 عاماً بوجه «العالم الآخر» في حينه.
إن هذه «الديمقراطية» التي يقف تشومسكي مدافعاً عنها وخائفاً عليها، ليست سوى الديكتاتورية والرجعية ذاتها باختلاف اسلوب القمع فيها، فعوضاً عن العصى والسجن المباشر كانت «الوسائل الاعلامية والمنظمات غير الحكومية وغيرها من أدوات» لا تعمل إلا لصالح النخبة الحاكمة، ومثبتةً إياها… وتشومسكي هنا، كما يبدو، واحد من هذه الأدوات التي سينتهي دورها ووزنها بانتهائها.
الحرب النووية والاحتباس الحراري غطاءٌ للتقاعس عن صدّ كورونا!
قبل دخوله في مناقشة الأخطار التي تهدد البشرية يبدأ الكاتب بجملة انتقالية في ختام الفقرة السابقة «إن الجنس البشري اليوم يواجه سؤالاً لم يتطرق له سابقاً في التاريخ الإنساني، سؤالٌ تجب الإجابة عليه في أسرع وقت: هل سينجو المجتمع البشري لفترة طويلة؟»
ويبدأ بذكر خطر الحرب النووية القديم منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، ذاكراً المجريات السياسية والعسكرية في السنوات القليلة الأخيرة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وذكر عدد من معاهدات التسلح الدولية كـ« START, ABM, INF »وانسحاب موسكو وواشنطن من بعضٍ منها، محملاً الطرفين حجم المسؤولية والتهور ذاتهه، حينما قال «إذا ما أخذت نظرة قريبة، ستجد أن كلا الطرفين يتهم الآخر بعدم التزامه بالمعاهدة» ومشيراً بعد ذلك إلى أن «الحدود الروسية، حيث التوتر يتصاعد، يقدم الطرفين على أفعال استفزازية». ليخطئ تشومسكي هنا بوضعه روسيا والولايات المتحدة على طرفي مساواة، ويُحمّل أخطاء واستفزازات واشنطن على ردود فعل الجانب الروسي التي أتت نتيجةً للأولى، وللسخرية فإن مثاله يدور على «الحدود الروسية» نفسها، ولو كانت على الحدود الأمريكية لأصبحت روسيا العدوّة الأولى للعالم.
وبعد أن ينتقل للحديث عن أزمة «الاحتباس الحراري» وما تسببه من مخاطر كبيرة على الجنس البشري ومجمل الحياة على الأرض، ذاكراً بضعة معطيات عامة حول الموضوع، يبدأ بالتطرق إلى الوباء الفيروسي الجديد، مقارناً إياه بوباء الطاعون «الموت الأسود» في أوروبا بالقرن الثاني عشر، مشيراً إلى العدد الهائل من الوفيات، إلا أنه يجري مقاربة غريبة فيقول «إن الموت الأسود قد أدى إلى مقتل ثلث سكان قارة أوروبا على الأقل، التي تعافت. وسيحدث تعافي الآن» إنّ هذه المقارنة ذاتها، وبالطاعون الأسود تحديداً عوضاً عن غيره الذي هو من أقدم وأشنع الأوبئة التي أودت بحياة الملايين من البشر، يهدف إلى الاستخفاف والتقليل ضمنياً من وباء فيروس كورونا المستجد مع ما يحصده من أرواح «قليلة» الآن، المقارنة ذاتها التي عمدت مختلف وسائل الإعلام الأمريكية ومثيلاتها في الغرب على ضخّها، لنشر الذعر الغريزي، والاستسخاف بالوباء الجديد ضمن الوعي في آن واحد. ليخدم بذلك أيضاً الإدارة الأمريكية نفسها قبل غيرها، ويبرر بشكل مُبطنٍ أدائها ومستهجناً الانتقادات الموجهة على مجمل المنظومة الرأسمالية.
ليؤكد أخيراً، ملمعاً موقفه و«إنسانيته» بالحرص على الحياة البشرية، بأن الحرب النووية والاحتباس الحراري أكثر أهمية وضررهم دائمين لا يمكن التعافي منهما. وهما أمران محقان تتحدث بهما كل البشرية الآن، باختلاف أسلوب استخدامها ضمن السياق لتبرئة تقاعس الحكومات عن مواجهة كورونا واعتباره أمراً عابراً «سنتعافى منه».
نحو الوداع
إنّ هذه المقالة لتشومسكي، تبين ذعره الخاص على نفسه أولاً، وتضعه ضعيفاً وعارياً أمام الأحداث والتغييرات التاريخية الكبرى التي تجري الآن، ففضح وانهيار النموذج الأمريكي بفعل الأحداث الأخيرة تحديداً يعني انهيار أدواته ومهرجيه السياسيين أيضاً، لتصبح الحاجة والضرورة بالنسبة للمجتمعات والشعوب تتطلب قوى سياسية بمواقف جريئة وواضحة كالشمس تدفع بالتغيير للأمام فعلاً، وهنا كان يبرز دور تشومسكي الأساسي كأداة لتغييب هذه القوى عبر تسويقه إعلامياً كـ«يسار» و«أممي» لتغطيته على الحقائق بنشاطه لصالح المنظومة ذاتها.
الخبر برس