المحيط: فك الارتباط لمواجهة كورونا الصحي والاقتصادي (1-3)
د. عادل سمارة
قد يجوز لنا تقسيم العالم اليوم إلى ثلاثة تجمعات جغرافية
- المحيط
- المركز الغربي الرأسمالي
- العالم الثاني الجديد.
في الحلقات الخمس عن الحماية الشعبية ناقشنا كيف يمكن العمل في مواجهة النظام الرأسمالي الغربي قبل جائحة كورونا وإثْرِها. وكانت بؤرة النقاش حالة وتجربة الأرض الفلسطينية المحتلة وإلى حد ما تطبيق الرؤية أو سحبها ما أمكن على الصعيد العربي وغيره.
يشكل موديل التنمية بالحماية الشعبية مقدمة لفك الارتباط على صعيد بلدان المحيط فرادى أو جماعياً. والحماية الشعبية كما أشرنا في مقالات سابقة ليست في الأساس دولانية بل قاعدية قد تبدأ عفوية طوعية ولكن لا بد لها من ناظم قيادي سياسي طبقي حزبي والمهم انها لا تعتمد على السلطة القائمة بما هي تابعة وطبقية وغالبا كمبرادورية.
صحيح أن التطور الطبيعي للتنمية بالحماية الشعبية هو العبور إلى فك الارتباط ولكن الآلية لتحقيق ذلك تصبح أكثر تعقيداً. فالقوى الشعبية التي تنتظم وتتبنى وتطبق الحماية الشعبية ليست بعد في سدة الحكم كي تقرر فك الارتباط بالسوق العالمية و/أو تختار أسواقا بديلة لأسواق الغرب الرأسمالي.
بوسع الطبقات الشعبية مقاطعة منتجات بلد ما سواء لإنتاج بدائل أو حتى لو لم يكن بوسعها إنتاج البدائل، أي لأهداف سياسية إنسانية وطنية، وهذا قد يجبر السلطات على تغيير مصادر الاستيراد، ولكن هدف الحماية الشعبية دفع السلطة إلى فك الارتباط وهذا يعني أن فك الارتباط بيد الدولة/ السلطة التي تمارس ذلك في حدود جذريتها طبقياً وتمكُّن قوى الحماية الشعبية من دفع السلطة في طريق فك الارتباط. بكلام آخر، إذا كانت الحماية الشعبية هي جماهيرية اساسا وربما تماماً، فإن موديل فك الارتباط هو تشاركيا بين الطرفين حيث يكون القرار حكوميا لكن هذا القرار لا يكون طوعياً في حالة سلطة تابعة إن لم يكن هناك موقفا شعبيا ضاغطا سواء بمقاطعة منتجات الغرب الرأسمالي أو بالضغط الشعبي على السلطة التابعة، اي بدرجة ما من النضال فالصراع الطبقي.
يعود نموذج/موديل فك الارتباط إلى المفكر الراحل سمير أمين والذي يكتسب اليوم راهنية أكثر من أي وقت مضى. لذا، آثرنا توفير تحليلنا لأطروحة سمير أمين كما كنا عرضناها إثر رحيله.
إشتباك فك الارتباط إبَّان التحول من الإمبريالية للعولمة
عُجالة قراءة في أطروحة سمير أمين
ملاحظة:
ليس هناك من إجماعٍ على تغيُّر حقيقي في النظام الرأسمالي العالمي مما يستدعي تسمية الحقبة الجارية بـ العولمة، وهي الفترة التي بدأت، تقديراً، مع الربع الأخير من القرن العشرين وحتى اليوم كفترة شديدة القِصر تاريخياً. لكن قِصرَها هو تكثيف لأزمة النظام الرأسمالي العالمي. أميلُ إلى وصف هذه الفترة القصيرة بالعولمة ولست مع القول بانها طور آخر من الإمبريالية أو أنها كلياً ضمن الإمبريالية[1].
هذه الورقة محصورة قدر المستطاع في فك الارتباط مع تناول القضايا الأكثر تعلقا بها فكريا وميدانياً.
(فك الارتباط هو عدم الخضوع لمنطق النظام الرأسمالي العالمي،
وحتمية التكيف السلبي مع متطلبات التكامل مع النظام العالمي[2]. )
قدَّم سمير أمين مساهمات هامة في النظرية الماركسية مرتكزا ومركِّزا على مكوناتها الثلاثة، بادئاً بتوظيف قوانين الديالكتيك في مختلف تحليلاته توظيف المتمكِّن الذي يُذيب النظرية في التحليل دونما تقعَّر باللغة وتعقيدٍ للنظرية، وموسعا في التحليل المادي التاريخي ليقدم مساهماته في فلسفة الاقتصاد السياسي.
هكذا بدأت ماركسية سمير أمين، أو شيوعيته إن شئت، سواء في بداية حياته في الحزب الشيوعي المصري ومن ثم مرحلة دوره بين مُنظِّري التبعية مدرسةDependency School ، التي أسست لتركيزه على قراءة متواصلة للتشكيلات المحيطية/الطرفية، وصولاً إلى دوره المميَّز في مدرسة النظام العالمي The World System حيث كان أحد الرباعي (سمير أمين، إيمانويل وولرشتين، أندريه جوندر فرانك وجيوفاني أريغي). وهي المدرسة في الماركسية، بل في الاقتصاد السياسي الماركسي، التي تُحلل النظام الرأسمالي العالمي بدءاً من بنية النظام باتساعها وصولا أو نزولاً إلى الجغرافيا موضوع البحث، أي هذا البلد أو ذاك. ذلك لأن هذه المدرسة رأت أن العالم بمعظمه مُهيمَن عليه رأسمالياً ومن هنا وجوب أخذه كوحدة مترابطة، وإن كانت هذه المدرسة، تأخذ المتغيرات والخصوصيات بالاعتبار.
تولدت نظرية التبعية Dependency Theory خلال ستينيات القرن العشرين من مجموعة/ مدرسة مدرسة إكلا United Nations Economic Commission for Latin America and the Caribbean ECLA”. التي أسس لها راؤول بريبتش حيث طورت أفكاره في البنيوية إلى نظرية التبعية التي وصلت إلى أن تطوير المحيط هو تقريباً واجب مستحيل.
ما يهمنا هنا هي أطروحة بريبتش بأن شروط التبادل المتدهورة بين المركز والمحيط تكرِّس تبعية المحيط، وفي هذا يمكن العثور على تأثير هذه الأطروحة على تطوير أمين لنظرية فك الارتباط، واتصالاً بمساهمة جوندر فرانك لا سيما في مسألة التخلف، و”تطوير التخلف- Developing of Underdevelopment” بمعنى وجود طبقات اجتماعية/سياسية حاكمة وذات مصلحة في مواصلة التخلف ومن ثم التبعية.
لم يُغيِّب أمين دور التقسيم العالمي للعمل في تكريس تخلّف المحيط، وهو ما دفعه لنقد الحركات القومية التي لم تَرَ تناقضاً بين التقسيم العالمي للعمل وتنمية بلدانها، مما أبقاها في مصيدة المفهوم البرجوازي لرتق الفجوة التاريخية، عبر المساهمة في التقسيم العالمي للعمل وليس عبر نفيه أي بفك الارتباط.[3]
يقود البحث في التخلف بل يعني قراءة عوامل التنمية بالمقابل. من هنا كانت قراءة تنمية المراكز أساسية في تفكير أمين، وهي التي قادته وآخرين لنظرية التنمية المتمحورة على الذات، والاعتماد على الذات إقليمياً إلى أن توصل ورفاقه إلى استحالة تكرار مناخات التنمية التي أنجزتها المراكز الغربية وخاصة دور هذه المراكز في الحيلولة دون تمكين المحيط من اللحاق بالمركز، إنه تناقض مُكوِّنَيْ النظام الراسمالي العالمي أي مركز/محيط. وعليه، كان من الطبيعي البحث عن طريق آخر، وهو الذي كان الاشتباك بفك الارتباط.
واصل أمين متابعته النقدية عبر قراءة وتحليل مادي تاريخي لمجمل النظام العالمي وأزماته بما فيها أزمته الممتدة منذ 2007 وحتى رحيله هذا العام، إلا أن مسألة التخلف بقيت محورية في قلقه وهمومه ومن ثم إنتاجه. ولذا كانت أطروحته الأساسية في “التطور اللامتكافئ” والذي يولد ويحافظ على التخلف ويُرسي التبعية واستمرارها. وهذا ما أغراه بأن يواصل حياته فكراً وعملاً في العالم الثالث ليصبح ضمن مدرسة العالمثالثية Third Worldism والتي تُعتبر الماوية مؤسِّستها.
هذا إلى أن وصل أمين إلى بلورة نظريته في فك الارتباط Delinking كشرط حَدِّيٍّ إذا كان لبلد في المحيط أن يتطور. وهو وصول قطعي تعرَّض بالطبع للتشويه من مفكري البرجوازية بينما انقسمت تيارات الماركسية بين مع وضد أيضا:
- مؤيدو نظرية “التطور اللارأسمالي- non-capitalist path”، التي كانت من علائم التهالك النظري، ومن ثمَّ الوجودي، لأنظمة الاشتراكية المحققة.
- ماركسيون في الغرب توهموا أن المحيط قد انتقل إلى تطور رأسمالي كما المركز، نظرية اللحاق، بيل وارين مثالاً: “… على الرغم من مختلف تلك السياسات الخاطئة، أصبح هناك اعتراف واعٍ بأن إنجازات البلدان الأقل تطورا قد تحسنت بشكل عام خلال الستينيات، وهو العقد الذي شهد النمو الأعلى في البلدان الأقل تطورا خلال القرن. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن القوة الشرائية الفعلية لصادراتها قد ارتفعت بنفس نسبة ارتفاع الإنتاج المحلي الإجمالي 5.5% (إلى جانب ثبات في شروط التجارة)، فإن الصادرات قد ازدادت بشكل سريع أكثر من الواردات في الستينيات، …هذه المؤشرات الإيجابية استمرت في السبعينيات[4]“.
كان يجب أن يتأخر الرحيل المبكر لـ بيل وارين ليرى ماذا حل بالعالم الثالث وكيف تمفصل عنه العالم الرابع، ولا سيما النمو المتسارع لاقتصادات المضاربة والريع وتمويل بلدان الريع لإرهاب أنظمة وقوى الدين السياسي.
لم يُغفل امين الرد على بيل وارين و بتلهايم وفرانك:
“… هل السمة الأساسية لتاريخنا هي توسّع رأس المال عالميا؟ إن بل وارين وجوندر فرانك وتشارلز بتلهايم، كلٌّ بطريقته يعتبرون الثورات الروسية والصينية “رأسمالية” ويرونها فقط كمرحلة، حتى لو محددة، لهذا التوسع”[5]
يبقى السؤال، أيهما الأدق: قناعة أمين بأن روسيا والصين فكّتا الارتباط بما يكفي بحيث أصبحتا منيعتين محصنتين ضد العودة للرأسمالية، أم حماسة بتلهيام ووارين وفرانك بأن الثورتين الروسية والصينية مرحليتان وجزء من التوسع الرأسمالي؟.
- أطروحة نقل التكنولوجيا إلى المحيط على شكل “رأس المال العامل الإنتاجي”، لكن دون التورط في الاعتقاد برسملة وتصنيع ولحاق المحيط بالمركز، تاماس سنتش: “… فمقارنة مع معظم البلدان المتقدمة، فهي، أي البلدان المصنعة حديثا، ما تزال في برزخ إنتاج وتصدير المنتجات الأولية. لقد وصلت هذه البلدان المصنعة حديثا موقعا أفضل في الاقتصاد العالمي. ولكن رغم أن النمو الصناعي قد حصل ، لكن لم يرافقه تأسيسٌ لقاعدة صناعية وطنية متقدمة إلى جانب كفاءات البحث والتطوير. فحلقات الإنتاج عبر مجمل الاقتصاد الوطني لم تحصل. وبدلا من ذلك فإن أعشاشها الصناعية البسيطة لم تؤكد أو تضمن فوائد أفضل ومستويات معيشة أفضل للأكثرية. فهي ربما تحولت لتكون مجرد إعادة إنتاج التخلف[6]“.
- دُعاة وجوب تغلغل الاستعمار في المحيط بشكل أعمق لأن تغلغله لم يكن كما يجب أو لم يكن كافياً (جيفري كاي[7])
- وأخيراً وليس آخراً المدرسة القديمة الجديدة الواسعة في “الاستعمار الإيجابي”، بل إيجابية الاستعمار في الفكر الاقتصادي السياسي البرجوازي والتي وصلت مع المحافظين الجدد، بمن فيهم قيادات تروتسكية انضمت لهذا التيار الديني السياسي، إلى احتلال بلدان لـ “دمقرطتها”، حال العراق، ليبيا…الخ .
فك الارتباط:
“في هذا الوضع كان لا بد من تطوير قوى الإنتاج بعيدا عن الرأسمالية”
تلخِّص هذه الجملة رؤية أمين لفك الارتباط بمعنى أن تطور بلدان المحيط يضعها أمام أحد خيارين:
- إما مغادرة النظام الرأسمالي كلياً ارتكازاً على تطوير قوى الإنتاج، وتجاوز معايير العلاقات الاقتصادية الاجتماعية الثقافية المترتبة على الاضطرار لعلاقة ما بالسوق العالمية، وهذا خيار في مصلحة الأكثرية الشعبية.
- أو الدوران في حلقة التخلف والتبعية المفرغة، وهو خيار في مصلحة أقل الفئات الاجتماعية عدداً وأكثرها ثروة وتخارُجاً وأقلها انتماءً للبلد حيث وطنها هو رقم حسابها المصرفي.
إلى ماذا تُردُّ مسألة الأقلية والأكثرية إن لم تُرد إلى المسألة الطبقية وانحياز كامل مشروع أمين إلى الطبقات الشعبية.
إن قوى الإنتاج/مستوى تطورها هي محورية في التطور، بل هي محوره الأساس بما أن الإنتاج هو الحلقة المركزية في أي اقتصاد وعليها تقوم الحلقات الأخرى، التوزيع والاستهلاك والادخار وإعادة الاستثمار والتبذير والإسراف…الخ. ويعني هذا، في هذه الحقبة تحديداً وفيما يخص الوضع العربي ولا سيما بلدان النفط، بأن الرّيْع كانتفاخ سيولة مالية ليس مدخلاً للتطور بل للتبعية. وفي حالتي التنمية والتبعية، فإن علاقات الإنتاج تلعب الدور الجدلي مع قوى الإنتاج، وهو ما يختلف فيه فقهاء الماركسية أيّها المقرِّر.
“…لا يتم فك الارتباط دون إخضاع العلاقات الخارجية وبلا كفاءة سياسية لإنجاز إصلاح إجتماعي عميق في اتجاه مساواتي. إضافة إلى استيعاب تكنولوجي والإبداع[8]“.
هذه الكفاءة السياسية هي التي نسميها “القرار السياسي” من السلطة الحاكمة، أي القرار الطبقي من الطبقة الحاكمة التي في كل تشكيلة اجتماعية اقتصادية تتموضع طبقاً لمصالحها وليس طبقاً لقوميتها أو جغرافيتها أو تاريخها…الخ.
الفائض، التراكم، وفك الإرتباط كبديل:
“… وفي حقيقة أن برجوازية العالم الثالث ليست قادرة حتى الآن على التجاوز. ولكن بوسع المرء القول بأن هناك بديلا للبرجوازية، البديل الآخر (التحالفات الاجتماعية الشعبية) هو الذي بوسعه القيام بذلك؟. هذه أطروحتنا. ولكن الأشكال اللازمة للقيام بذلك تتضمن ما نسميه فك الارتباط وهو جزء من الإشكالية حيث لم يعد هناك مجال لتوسع رأسمالي، وعليه فالممكن- وهو بالأحرى نقيض- الانتقال باتجاه مجتمع آخر (الاشتراكي)”[9].
يركز أمين في عمله هذا على التراكم مشيرا إلى أن هناك خلطاً بين التمحور على الذات وبين التصنيع بالبدائل (إحلال الواردات) بزعم أنها عكس الاستراتيجية الموجهة للتصدير (أخذ التصدير كقوة دافعة للنمو) وتجد توسعها في توسيع السوق المحلية. وهذا يطرح السؤال عن كون البدائل هادفة التحكم بالتراكم أو أنها تقبل بدرجة من تحكم رأس المال الأجنبي سواء ماليا وتكنولوجيا وتبعية …الخ. أي هل يفلت التراكم من يد الدولة[10].
طبعا، هو هنا يتجاوز وينقض نظريات اللحاق والتكيف والإقلاع…الخ بما هي مداخل برجوازية ليبرالية للنمو لا أبعد.
ولكن، هل كان على أمين البدء أو العودة بنا إلى ما قبل التراكم، إلى أساس ومولِّد التراكم؟ أي علاقات الإنتاج الراسمالية الطبقية التي تقوم على وباء الملكية الخاصة[11] ومن ثم الاستغلال وسلخ القيمة الزائدة أي بزل الفائض والتحكم به؟ باعتبار الفائض هو ثمرة الإنتاج الذي تنتجه قوة العمل بما يعتريه بالطبع من الاستغلال والتغريب/الاغتراب. بالطبع كان يجب ذلك، لكنه ربما افترض أن الأمر تحصيل حاصل. فالفائض أساسه العمل ولذا هو أساس التراكم.
لم يكن أمين بعيداً، بل كان من أبرز أعضاء مدرسة مونثلي ريفيو[12] (بول باران و بول سويزي وهاري ماجدوف و آيلين ماكيمس وود وجون بولاني فوستر…الخ) ولا سيما عمل باران عن الفائض في كتابه الهام Political Economy of Growth ، 1957.
من أهم نظريات ماركس في الاقتصاد ، نظرية فائض القيمة أو القيمة الزائدة التي تنتجها قوة العمل البشرية وحدها ولا يبقى لها من جهدها المبذول في الإنتاج المتحول إلى سلع سوى ما يحقق لها حدا أدنى من البقاء أو الكفاف لها ولمن تُعيل؛ أما النسبة الأعم بما يقارب الإطلاق فتذهب للذي يملك ولا يعمل كي يُنفق ويدخر ثم يستثمر مجددا أي يستغل قوة العمل مجددا…وهكذا. وكلما تطورت التقنية يحقق الرأسمالي فائض قيمة حيث يتحول هذا الفائض إلى ربح.
اهتمّ الاقتصاديون كثيراً بمسألة فائض القيمة، وخاصة اقتصاديو التنمية، حيث ربطوا الأمر بنمو ومن ثم تنمية هذا البلد أو ذاك؛ بمعنى أن النمو والتنمية كي يتحقق أحدهما هنا والآخر هناك لا بد للبلد أن يحتفظ بالفائض المتحصل على صعيد وطني/قومي، وبأن أسباب التخلف تنكشف حينما لا يتحكم بلد بالفائض المتحصل فيه، أي بمجموع القيمة الفائضة/فائض القيمة للبلد ككل.
هذه المسألة شغلت الاقتصادي الأمريكي بول باران، ولا سيما في قراءته لتخلف بلدان محيط النظام العالمي، فطوّر نظرية في الفائض أطلق عليها الفائض الاقتصادي بما هو على مستوى الوحدة الدولانية أي البلد القومي. ورأى أن الفائض هو الفارق بين المُخرج الكلي والاستهلاك الكلي للبلد. وتقدم ليرى أن هناك ثلاثة متغيرات محددة لمفهوم الفائض الاقتصادي هي:
- الفائض الاقتصادي الفعلي، وهو الفارق بين المخرج الجاري للمجتمع والاستهلاك الجاري لنفس المجتمع، وهذا هو الفائض أو المدخرات التي تتعامل معها النظرية الاقتصادية. كما لاحظ أن بلدان المحيط تحقق فائضا ضئيلا وبأن هذا أساس تخلفها، أي نقص رأس المال.(طبعاً لاحقا لم يعد توفر المال هو الأساس في التنمية بقدر ما هو الإنسان والسياسة الاقتصادية)؛
- الفائض الاقتصادي المحتمل وهو الفارق بين المخرج الممكن إنتاجه في شرط أو بيئة طبيعية و تكنولوجية بمساعدة استخدام موارد إنتاجية وما سيعتبر استهلاكاً أساسياً؛
- مفهوم الفائض الاقتصادي المخطط المرتبط بنظام اشتراكي. وهو الفارق بين المخرج المتحقق “الأمثل” في بيئة طبيعية وتقنية تاريخية في ظل شروط تخطيط أمثل في الاستفادة من قوى الإنتاج المتوفرة واختيار مستوى استهلاكي أمثل. وأهمية المخطط أنه قائم على سياسة ترشيد علمية تحافظ على الموارد البشرية والطبيعية. هذا المخطط المتماسك لباران، والمهتم أساساً بقراءة مسببات التخلف، لم يركز كما يجب على السلطة الطبقية في المحيط والتي غالباً ما تحوّل دورها إلى آلية تسهيل نزيف الفائض. وهو الأمر الذي يتم تلافيه في النظام الاشتراكي.
بدوره، قام الراحل أنور عبد الملك بتوسيع نظرية الفائض. فإذا كان ماركس قد ناقشها وأسس لها على نطاق المشروع الواحد، علاقات الإنتاج والاستغلال الطبقي، ولامس المستوى القومي/الوطني، وقام باران بتوسيع مفهوم الفائض ليتعدى القيمة الزائدة فائض القيمة في المركز وفي المحيط أي في النظام الرأسمالي العالمي في فترة معطاة؛ فإن عبد الملك طور المفهوم ليعطي الفائض مستوى تاريخياً غير ساكن ولا محدد بفترة زمنية محددة أو بلد محدد، وإن ركز على، أو بدأ من، القرن الخامس عشر، وهو مدخل يتقاطع في الحقيقة مع قراءة ماركس لمفهوم القيمة عموما، بمعنى أن قيمة السلعة هي مقدار العمل الإنساني/الإجتماعي المبذول فيها، أي العمل بتنوعاته، الحي والميت والمجرد …الخ. إنه العمل المتراكم تاريخيا.
ويضيف، إن جذور العنف، جذور الحرب المعولمة، الطريق إلى السلاح، قابعة/متأصلة في البنية التاريخية للنظام العالمي، وهي في التشكيلة التاريخية للهيمنة الغربية المتجذرة في فائض القيمة التاريخي منذ القرن الخامس عشر وما تلاه. إن الشيء الأساسي في التحليل البنيوي للهيمنة الغربية، ليس محصوراً على أية حال في بُعد الميل الحربي. فبالاحرى، يجب تسليط البحث وتركيزه على تشكيلة فائض القيمة التاريخي”[13]؟
لا أحد من اليمين ولا اليسار، أهمل مساهمة ماركس أو مساهمة بول باران في مسألة الفائض، لكن، قلما أشار أحد إلى مساهمة أنور عبد الملك! هل هي مركزانية الثقافة الغربية وتبعية غير الغربيين؟ هل هي لا سامية في الاقتصاد السياسي؟
لا شك أن أمين قد اطلع واستفاد من أطروحة عبد الملك لا سيما أنهما من نفس الخلفية من جهة، وعاشا أيضاً في شبه هجرة عن مصر، ومن هنا أنهى أمين مساهمته في بلورة فائض القيمة المعولم..
Amin S. Beyond US Hegemony? Assessing the Prospects for a Multipolar World, Zed Books, 2006, p. 27 [1]
[2] أنظر عادل سمارة، تطوير اللاتكافؤ في الوطن العربي، مجلة المستقبل العربي، العدد 197، تموز 1995، ص ص 16-27.
Amin Delinking: Towards a Polycentric World, zed books, 1985.p.91[3]
[4] Warren Bill, Imperialism Pioneering of Capitalism, Verso, 1980. P. 178. See also Chapter 8. The Illusion of Underdevelopment: Facts of-Post War Progress, in the same book.
[5] Amin Delinking: Towards a Polycentric World, zed books, 1985.p.75
[6]Tamas Szentes, The Transformation of the World Economy: New Directions and New Interests, Zed Books, 1986. P.74
[7]See, Kay. Jeffry, 1975, Development and Underdevelopment: A Marxist Analysis. London Macmillan, New York: St Martins.
[8] Amin Delinking: Towards a Polycentric World, zed books, 1985, P. 60
[9] Amin Delinking: Towards a Polycentric World, zed books, 1985P.13.
[10] Amin Delinking: Towards a Polycentric World, zed books, 1985.p.18
[11] لا تقوم مشكلة البشرية تاريخيا على الأساس الاستحواذي الاستغلالي الذي كرسته الملكية الخاصة بما هي سلاح طبقي وهزيمة طبقة لأخريات، بل كذلك على المفعول والمحفِّز الننفسي للربجوازي الذي يتعالى بما يملك وبما ليس جوهره كشخص وهذا يدفعه للتمسك بالملكية الخاصة بناء على تغذية متبادلة بين البحث عن الربح اللامحدود وتوظظيف ذلك في رفع مكانته الاجتماعية فالسياسية
[12] هذه المدرسة القريبة من الماوية هي التي اعتبر نفسي قريبا منها واستفدت منها كثيرا، لكنني لست ضمنها
[13] Kana’an – The e-Bulletin ، السنة الثامنة عشر – العدد 4724، 28 آذار (مارس)، 2018.
يتبع … الجزء الثاني