مستعربون أضاؤوا ورحلوا
د. يوسف الحسن
قبل أسابيع على إعلان إنشاء «إسرائيل» استقال (بايارد دودج) الذي أسس الجامعة الأمريكية في بيروت، من منصبه، وعاد إلى مدينته (برينستون) في ولاية نيوجرسي، ونشر مقالاً له في إبريل/نيسان 1948، في مجلة «دايجست» بعنوان: «هل ينبغي أن تكون هناك حرب في الشرق الأوسط؟»، هاجم فيه فكرة قيام دولة لليهود في فلسطين، لأنها ستضر بالمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، ولأن العرب يعارضون قيام هذه الدولة.
وكتب في مقاله: «إن كل الأعمال التي قامت بها جمعياتنا الأمريكية الخيرية غير الربحية في العالم العربي، مثل: مؤسسة الشرق الأدنى، وإرسالياتنا التبشيرية والتعليمية، وجمعياتنا مثل YMCA و WMCA، وكلية بوسطن اليسوعية في بغداد، وجامعاتنا في مصر ودمشق، ستكون في خطر الفشل والانهيار، وستلاقي امتيازاتنا النفطية المصير نفسه!!».
وشدد (دودج) على أن هذا سيقوّي موقف «الشيوعيين» الذين ينوون أن يرسلوا آلافاً كثيرة من «اليهود الشيوعيين» الروس إلى «دولة إسرائيل». ولذا دعا (دودج) الجماعات اليهودية المسلحة إلى إلقاء سلاحها، والتحدث إلى العرب.
لقد عكست أفكار مؤسس الجامعة الأمريكية في بيروت رأي الأمريكيين العاملين في الشرق الأوسط، والذين كانوا يعتقدون أن أمريكا وبريطانيا والاتحاد السوفييتي تقترف خطأ سياسياً وأخلاقياً في التعجيل في تقسيم فلسطين من خلال قرار من الأمم المتحدة. وقد واجه كثيرون من العاملين في الجمعيات التعليمية والتبشيرية، الواقع الصهيوني بكل الحجج الدينية والسياسية، لكن الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت، (ترومان)، وبخلفيته اللاهوتية الأصولية الحرفية، كان ينظر إلى أمثال (دودج) ممن يُسمَّون بالمستعربين، على أنهم «أعداء للسامية»، ويقول في مذكراته: «إن المتخصصين في وزارة الخارجية بعد الحرب العالمية الثانية، كانوا رافضين لفكرة الدولة اليهودية، إما لأنهم أرادوا أن يسترضوا العرب، وإما لأنهم كانوا معادين للسامية».
ويحضرني في هذا المجال شخصيات أمريكية دبلوماسية وأكاديمية كثيرة، ممن ناهض الصهيونية كفكر وحركة، ول«إسرائيل» ككيان سياسي، من بينهم حاخامات مثل الحاخام (الميربيرجر)، الذي أسس وقاد منظمة يهودية اسمها «البدائل لليهودية الأمريكية للصهيونية» في عام 1942 في نيويورك.
وكذلك الدبلوماسي الأمريكي اليهودي (ألفريد ليلينتال) الذي كان مستشاراً للوفد الأمريكي في اجتماعات مؤتمر سان فرنسيسكو الذي وضع ميثاق الأمم المتحدة في عام 1945، كما كان أحد أبرز المعارضين لمؤتمر «بلتمور» الذي تم فيه توحيد كافة المنظمات اليهودية تحت مظلة الحركة الصهيونية العالمية.
عرفت ليلينتال في الثمانينات، أثناء مشاركتي في مؤتمر بواشنطن، نظمته جامعة أمريكية، وكان قد صار شيخاً طاعناً في السن، وفي أول لقاء لي معه، ذكرت أمامه، أنني قرأت له كتابه الذي أسماه «الحلقة الصهيونية: ثمن السلام». كما اطلعت على مقال قديم له، نشره في مجلة «ريدرز دايجست»، وهو مقال شهير لاقى صدى بعيد المدى في أنحاء العالم، وقد جاء يحمل عنواناً مثيراً وهو «راية «إسرائيل» ليست رايتي».
وفي مرحلة الشباب، قرأت له ترجمة عربية لكتابه «ثمن إسرائيل» وأعجبت بشجاعته كمناهض يهودي للصهيونية، وقد كرّس حياته لمناطحة فكرية ولاهوتية مع قادة كبار من دعاة الصهيونية في الساحة الأمريكية، غير مبالٍ بما لحقه من أضرار مادية وحصار إعلامي واجتماعي، ومطاردات نفسية.
استقال (ليلينتال) من وزارة الخارجية في نهاية الأربعينات وعمل بالمحاماة، وقام بزيارة عدد من الدول العربية، والتقى في مطلع الخمسينات مع المغفور له الملك سعود بن عبدالعزيز، وأجرى معه حديثاً صحفياً، نشرته جريدة «الحياة» ومما جاء فيه على لسان الملك: «إن القضية الفلسطينية يتوقف عليها السلم والأمن في هذه الرقعة من العالم»، وإن نكبة فلسطين خلقتها الصهيونية العالمية بعون ونفوذ ومساعدة السياسة البريطانية والأمريكية، ثم بالمواقف السلبية التي وقفها بعض رجالات العرب أنفسهم».
رحل (ليلينتال) إلى دار البقاء قبل سنوات، وفي قلبه غصة من إهمال العرب له، ومعاملته بقسوة من خلال تجاهله طوال عقدي الثمانينات والتسعينات.
توقف، كما قال لي ذات يوم، «أصدقاء عرب» كما يسميهم، عن دفع الاشتراك السنوي في نشرته الأسبوعية التي كان يحررها واسمها «الموقف في الشرق الأوسط»، وأشاحت منظمات عربية أمريكية بوجهها عنه، وخشيت من عواقب دعوته للمشاركة في مؤتمراتها ومحاضراتها، خوفاً من جماعات الضغط الصهيوني، أو خشية فقدان بعض المساعدات المالية من أمريكيين، يتهمون (ليلينتال) بأنه معاد للسامية.
كانت مودّة عرب كثيرين كبيرة معه، حينما كان الزمان مقبلاً معه، لكن في سنوات شيخوخته، نسوه، وتركوه وسط الطريق.
يبدو أننا كثيراً ما نهمل أصدقاء، أفراداً أو دولاً، باعتبار أن مواقفهم «مضمونة».