أنت أمي
رانية مرجية
كانت في الخريف الثامن عشر من عمر الوجع، عندما قررت مغادرة قريتها غير المعترف بها، الواقعة في النقب، بعد أن ادخرت مبلغاً وقدرة ألف شاقل جديدٍ من مصروفها الشخصي، للانطلاق إلى يافا عروس البحر المتوسط، بعيداً عن الذئاب الذين جردوها من طفولتها، براءتها وعنفوانها، بعد أن شاخت قبل أوانها، يافا والشارع سيكونان أرحم عليها من زوج والدتها وأبناءه الذين كانوا يعتدون عليها ويمارسون شذوذهم بعنف وشراسة لا مثيل لهما.
كانت أمها سلبية جدا، إذ تجردت من كل معاني الأمومة السامية والإنسانية المطلقة. كانت تعرف كل ما يحدث بكافة التفاصيل المقززة، ومع هذا، لم تحاول ولو مرة إيقاف المهزلة. صمتت صمت النعاج في حين كانت تذبح ابنتها روحيا يوماً بعد يوم.
كان جل همها يتمحور حول كيفية الحفاظ على اسم عائلتهم، سمعتهم، ومظهرهم أمام الناس.
أخيراً وصلت لبحر يافا، كان والدها يصطحبها كل صيف إلى بحر يافا، آخر مرة احتضنت بها بحر يافا كانت في ربيعها الثامن، وبعد أن رحل والدها اختارت أمها أن تتزوج مرة أخرى.
ومنذ ذلك اليوم وبرد الشوق ليافا يصفعها فترتعد الذاكرة.
تأملت يافا، مآذنها، أجراس كنائسها، بحرها، و اجتاحتها جيوش الذاكرة. استعادت صور الطفولة، رائحة عرق والدها وهم يبنيان معاً مجسمات من الرمل. تنهّدت بصوت عال لفت انتباه رجل وسيدة يجلسان على مقعد مقابل لذاكرتها. لا تعرف كيف خانتها دموعها حينها، بدأت تبكي بحرقة شديدة، وتنادي أبي حبيبي لماذا تركتني ورحلت؟!
تمرد على الموت وانتصر عليه، وعد للحياة لتحميني من الضياع والعذاب لتنتقم لي، فقد قتلتني الذئاب اللئيمة. آه يا أبي كم أحتاجك الآن، إني قادمة إليك قادمة إليك لا محال…
فجأة، شعرت بيد تربت عليها من الخلف، ابتسمت وتساءلت بسرها هل عاد أبي إلى الحياة؟!
أما زالت المعجزات تتحقق؟!
التفتت إلى الخلف فخاب ظنها، إذ وجدت نفسها أمام رجل وسيّدة غطى شعرهن الشيب.
شعرت بدوار شديد وبدأت ترتجف كأنها ورقة في مهب الريح. استجمعت قواها وقالت: من انتم؟ وأين كنتم؟ ظننت أني الوحيدة هنا فنحن في فصل الشتاء.
أنا فاطمة يا حبيبتي وهذا زوجي أحمد، نحن نحب البحر كل يوم.
قالت بصوت كصدى قادم من بين جدران الزمان: أنا زينة، أنهيت المدرسة قبل شهور، وجئت اليوم هنا لأبحث عن عمل شريف. إلا أني وجدت نفسي على شاطئ البحر.
ابتسم أحمد وقال: أنا أبحث عن موظفة، أي سكرتيرة لتساعدنا وزوجتي في عيادة الأسنان فما رأيك بالعمل معنا؟
حقا يا عمي؟! قالت زينة بلهفة غريق تعثر بغصن.
وتدخلت فاطمة حقا يا حبيبتي فنحن أهلك من اليوم.
– لكنكم لا تعرفوني.
– نعرف انك هدية السماء لنا، فنحن لم نرزق بأطفال رغم انه مر على زواجنا أكثر من عشرين عاما.
ابتسمت زينة وقالت: وأنا من اليوم لن أعود يتيمة أكثر، فأنت أبي وأنت أمي.
ودارت السنوات وتخرجت زينة من كلية طب الأسنان بتفوق، وبعد عام من تخرجها رزق الله السيد أحمد والسيدة فاطمة توأماً جميلاً. حرصت زينة كل الحرص على مساعدة والدتها الحقيقية على تربية أخيها وأختها، وبعد مرور خمس سنوات،
ماتت فاطمة وتركت حزنا وحسرة شديدان في نفس زينة وزوجها، وأصرّت زينة أن تربي إخوتها بنفسها وتعتني بوالدها ورفضت مبدأ الزواج، ولا تزال زينة لغاية اليوم تعتني بإخوتها الذين يدرسون حالياً بالمرحلة الإعدادية وهم من المتفوقين، وتدير عيادة أبيها البار وتحرص دائماً على زيارة ضريح والدتها حيث ترقد بسلام لتقرأ لها الفاتحة وتقول لها: أنت أمي أنت ملاكي وليست الأخرى التي ولدتني وتركتني للذئاب.