أقلام الوطن
النزاهة
الدكتورة أنيسة فخرو
تساءلت وأنا أرى ما فعله المهاتير في ماليزيا، هل يوجد رئيس وزراء أو رئيس دولة أو حاكم عربي نزيه مثل المهاتير؟ انبهرت عندما شاهدت ما فعله المهاتير بمجرد استلامه كرسي رئاسة الوزراء في ماليزيا في مايو 2018، وبعد أن تعدى التسعين من العمر، وبعد أن ترك بصمات بيضاء ناصعة في تاريخ ماليزيا سابقا منذ 1981 وحتى 2003، حيث بقي 22 عاما في المنصب، وبفضله انتقلت ماليزيا لتصبح في مصاف الدول المزدهرة النامية، بعد أن كان اقتصادها معدما وفقيرا، وفي فترة حكمه السابقة استطاع أن يقر تعديلات دستورية، فقد كانت الموافقة الملكية على القوانين أساسية من أجل تمرير أي مشروع، وأصبحت موافقة البرلمان تعادل الموافقة الملكية بعد 30 يوم من دون انتظار رأي الملك، وبعد فوزه مجددا في الانتخابات 2018، واستلامه الرئاسة في 10 مايو، أصدر أمرا في 12 مايو بمنع نجيب عبدالرزاق رئيس الوزراء الأسبق وزوجته من السفر خارج البلاد، وفي 13 مايو يصدر أمرا بإعادة الضرائب التي تم جمعها بطريقة غير قانونية، وفي 15 مايو ينشئ لجنة الإصلاحات المؤسسية، وفي 16 مايو يتم اطلاق سراح أنور ابراهيم المعارض من السجن، وفي اليوم نفسه الشرطة تفتش منزل نجيب ليجدوا كنوزا من العملات الورقية والذهبية والمجوهرات، التي تم عرضها في كل وسائل الإعلام، لتدخل كل تلك الملايين في ميزانية الدولة مجددا بعد أن سُرقت منها، وفي اليوم نفسه يعلن أن ضريبة الخدمات على السلع والخدمات للمواطنين ستكون صفرا.
ثم تقوم السلطات الماليزية بمصادرة ممتلكات تصل قيمتها إلى 273 مليون دولار من ممتكلات نجيب، وفي 22 مايو يتم استجواب نجيب في اللجنة الماليزية لمكافحة الفساد، الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء من 2009 وحتى 2018، ولتظهر فضائح الرشاوى والفساد التي فاحت رائحتها للقريب والبعيد.
فلو بقي نجيب عشرين أو ثلاثين سنة كحال غيره من الرؤساء العرب لأصبحت ماليزيا كحال أي قطر عربي وربما أسوأ.
كان المهاتير من أكثر الساسة المعارضين للعولمة، والأكثر تأثيرا في آسيا، وكان يدعو إلى تكتل تجاري عالمي لمواجهة سياسات ترامب، ويؤكد دعم بلاده لإحلال السلام في اليمن، والده كان معلما ووالدته ربة بيت، وهو أول رئيس وزراء ينتمي إلى أسرة عادية ذات دخل محدود.
فهل من المستحيل أن يأتي رجل عربي نزيه في سدة الحكم؟ بالطبع ليس مستحيلا، جمال عبدالناصر كان نزيها جدا إلى درجة أنه وعلى حياته لم يحظى والده ولا أيّ من أقربائه بمنصب، وعندما رحل لم يجدوا أي شيء في حسابه المصرفي.
الجنرال إبراهيم عبود رئيس السودان، تنازل عن الحكم بعد مظاهرة واحدة، وكان يعيش في بيته ويشتري حاجياته بنفسه، ولم يسرق أية أموال من موازنة الدولة.
الرئيس السوداني إسماعيل الأزهري، وبعد أن أقسم اليمين الدستورية للمرة الثانية بخمس دقائق استلم إخطارا من المحكمة عن دعوى رفعها جاره عليه بسبب تعدي الرئيس بمتر ونصف تقريبا من الحائط الفاصل بين منزلهما، كسب الجار الدعوى لاحقا وأعاد له الرئيس حقه في المتر والنصف.
ياسر عرفات رغم كل التشويه والحرب الدعائية التي شنها عليه الصهاينة لتلطيخ سمعته، رحل وهو لا يملك بيتا ولا أي شيء، كل ممتلكاته بدلتين عسكريتين وكوفية وعقال وفرشاة أسنان.
الدعاية التي روّجها الصهاينة حول أموال أعطيت لأرملته دعاية كاذبة، عائلة الطويل يملكون نصف القدس، وهي من العائلات المقدسية القديمة والثرية مثل النشاشيبي والحسيني، لكن دعاية الصهاينة فعالة جدا لأنها مبنية على قواعد الدعاية الناجحة التي أرساها غوبلز وزير الدعاية النازي، والتي تقول نصف حقيقة تُبنى عليها كذبة، ونصف الحقيقة أن عرفات كان يدير أموال المنظمة، أما الكذبة فهي أن تلك الأموال يملكها، طبعا الصهاينة العرب روجوا للكذبة، والبقية صدقوها دون تمحيص، بل إن البعض ادّعي بأن عرفات كان يقدم قروضا لدول!
وصفي التل رئيس وزراء الاْردن الأسبق عندما مات لم يجدوا في حسابه فلسا واحدا، وكان أثاث منزله لا يزيد عن بضع كراسي.
وعشرات من الرؤساء العرب النزيهيين الذين كان لهم دورا بارزا في نهضة وطنهم وشعبهم أمثال شكري القوتلي، وأحمد بن بله، وهواري بومدين، والحبيب بورقيبة، وغيرهم عشرات، أمتنا ولادة وليست بعاقر.
لكن المشكلة الكبرى التي تواجه أمتنا العربية والإسلامية هي إن كل مسئول أو حاكم نزيه، إما أن يتم قتله كما فعلوا مع عبدالناصر، وإما أن يتم إبعاده في أفضل الأحوال، كما حدث مع القائد الجمسي، الذي أبعده السادات عن عمله وأجبره على التقاعد، وكما حدث أيضا مع المهاتير محمد، فلكي تبقى على الكرسي عليك أن تطاطي تطاطي، أوتسرق وتنهب.