لتضغط تركيا على الفرامل
بروفيسور عبد الستار قاسم
تركيا دولة قوية اقتصاديا وعسكريا، وتمتلك ثروات متنوعة ومتعددة تمكنها من المحافظة على قدراتها ودفعها بالمزيد إلى الأمام، لكن قوتها بالشأنين الاقتصادي والعسكري لا تؤهلها بعد لتكون دولة عظمى تمد أذرعها إلى أماكن عديدة. بدأت رئاسة السيد إردوغان بالعمل الحثيث على تصفير مشاكل تركيا على المستوى الخارجي، وعمل وزير خارجيته بجد واجتهاد في بداية العهد على تحقيق هذا الهدف. عملت تركيا على تحسين علاقاتها مع دول الجوار، وأبدت استعدادها للتعاون مع الجميع في كافة مجالات الحياة. وقد لاقى هذا التوجه التركي الكثير من الاستحسان والقبول في مختلف الساحات وأخص بالذكر الساحة العربية على المستوى الشعبي خاصة. مختلف التوجهات على مستوى الأشخاص والأحزاب والحكومات رأت في السياسة التركية المعلنة فرصة ممتازة لتحقيق المصالح المشتركة والتي تعود بالنفع على جميع شعوب المنطقة. وبالنسبة للعرب، كان ذلك مبشرا بخير وأملا في عودة تركيا إلى حضنها الاعتيادي وهو المشرق. أحس العرب أن تركيا أدارة ظهرها لبيئتها الحقيقية بعد الحرب العالمية الأولى وأنها انفصلت عن موقعها الجيوسياسي الصحيح، وغادرت الحرف العربي وابتعدت عن تاريخها وقصة التحامها بالوطن العربي والشعوب الإسلامية عموما.
ارتاح أغلب الناس العرب للسياسة التركية الجديدة، وكانت تركيا على رأس المستفيدين من هذا الانفتاح من حيث أن بضائعها أخذت تتدفق على البلدان الإسلامية والأسواق العربية خصوصا. وانتعشت السياحة التركية بالمزيد، وأخذ مئات آلاف العرب يتوجهون إلى تركيا للسياحة وشراء البضائع المتنوعة، وشراء الأملاك والإقامة في تركيا والعمل على الترويج لكل ما تنتجه لتركيا. وأخذت البضائع التركية تنافس البضائع الصينية، وأخذت بعض المحال التجارية تأخذ اسمها من شركات تركية.
لكن تركيا لم تستمر على ذات النهج، وبدل تصفير المشاكل مع الجوار، ارتفعت وتيرة المشاكل وتضاعفت بخاصة بعد اندلاع الحراك العربي. بدأت بمشاكل مع سوريا، والعراق، ومن ثم مع روسيا وأمريكا واليونان، ومع أرمينيا. ووزعت قوات ومستشارين عسكريين لها في قطر وليبيا وسوريا والعراق، وربما تلاقي مآزق عسكرية مع دول محيطة بها مثل أرمينيا واليونان. ودخلت في مشاكل مع السعودية ومصر وفي بعض التوترات مع الاتحاد الأوروبي أو بعض دوله.، وبعضهم يتهمها أنها تحشر نفسها في لبنان بخاصة في محيط مدينة طرابلس.
دخلت تركيا في هموم ومشاكل اقتصادية وأمنية وعسكرية مع العديد من الدول، وإذا استمر هذا السلوك الذي يمتد على مدى سنوات فإنها قد تدخل في هموم جديدة في دول لم تكن على البال. طبعا تركيا لا تتحمل مسؤولية كل هذه المشاكل التي استجدت. فمثلا لا تتحمل تركيا مسؤولية المشاكل مع السعودية لأن السعودية هي التي صنعت مشكلة جمال خاشقجي ورفضت التعاون مع تركيا في التحقيق. وهي ايضا لا تتحمل المشاكل الدائرة حول المياه الاقتصادية شرق البحر الأبيض المتوسط لأن دولا مثل الكيان الصهيوني وقبرص قد توصلت إلى اتفاق بهذا الشأن بدون تركيا، وأتبعت اليونان ومصر الأمر بمحادثات فيما بينهما واستثناء تركيا ذات الحق في جزء من المياه المتوسطية. لكن لم يكن من الحكمة إدخال قوات تركية إلى العراق وسوريا. وكان من الممكن حل المشاكل مع هاتين الدولتين العراق وسوريا أمنيا وبدون إشغال الجيش التركي. لا سوريا تسمح بإقامة كيان كردي، ولا العراق، وكان بالإمكان تنسيق جهود الدول الثلاث للتوصل إلى معادلة ترضيها وتضمن سلمية النشاطات الكردية. ,إذا كان هناك من كان يدعم إقامة كيان كردي مستقل فهي الولايات المتحدة وليس سوريا والعراق. وأمريكا ما زالت تقدم أنواعا من الدعم للأكراد لتمكينهم في الشمال السوري والشمال الشرقي. بعملها العسكري داخل العراق وسوريا، كسبت تركيا كراهية القوميين العرب، والعديد من غير القوميين الذين رأوا في العسكرة التركية إهانة للعرب واستغلالا سيئا للظروف الصعبة التي تمر بها كل من العراق وسوريا، ومحاولة لإحياء العهد التركي المنهار عقب الحرب العالمية الأولى. وهذا بالتأكيد ينعكس سلبا على المصالح الاقتصادية التركية لدى العرب.
وسّعت تركيا نطاق نشاطاتها العسكرية والأمنية إلى ما هو أكثر من طاقاتها العسكرية والاقتصادية. صحيح أن تركيا تملك أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي، لكنه ليس بالقدر الكافي ليتمدد إلى صحاري وشواطئ واسعة جدا وأكبر من مساحة تركيا.
أنجزت تركيا تطورا اقتصاديا وعلميا وتقنيا واسعا، وهذا من حسن حظ الشعب التركي، فهل تعمل تركيا على القيام بنشاطات وصناعة عداوات تعيد عقارب الساعة إلى الوراء؟ حركة الجيوش وطواقم الأمن مكلفة جدا، وهي تتطلب ميزانيات كبيرة، وإذا كان لتركيا أن ترفع مستوى إنفاقها العسكري إلى ما هو أكبر من متطلبات الجيش فإن ذلك سيكون على حساب الاقتصاد التركي، أي على حساب راحة المواطن التركي. تركيا ما زالت في طور النهوض الذاتي لتكون فاعلا أساسيا على الساحة الدولة، وإنفاق الأموال في غير هذا الاتجاه لا يقفز بالطموحات التركية وإنما يعيدها إلى الوراء. من المفروض ألا تغتر تركيا بقوتها الحالية فهي ما زالت دون المستوى المطلوب لتأمن شرور الدول غير المنسجمة مع سياساتها.
هناك قطاعات شعبية تركية واسعة ما زالت تعاني من الفقر وضعف الحال الاقتصادية، وهي بحاجة إلى الرعاية وتوفير المنازل والخدمات الصحية والمعاهد التعليمية والبنى التحتية بخاصة في الأرياف.
ثم أن الدول الغربية غير مؤتمنة ولا ثقة فيها، وهي تكره المنافسين سياسيا واقتصاديا وعسكريا، ولديها دائما الاستعداد لحبك المؤامرات والدسائس وصناعة الحروب من أجل تحجيم المنافسين وإبعاد خطرهم. والمثل السوري ماثل أمام الأتراك. كلما فشل أهل الغرب بخطة معينة من شأنها تحقيق أهدافهم يلجأون إلى مؤامرات أخرى وهكذا من أجل أن تبقى الحرب دائرة والقدرات السورية مستنزفة. الاتحاد الأوروبي وأمريكا ليسوا مرتاحين للسياسات التركية وهم لا يعجزون عن إثارة الفتن الداخلية والحروب من أجل استنزاف تركيا. والبيئة التركية خصبة للاختراقات الغربية. هناك ملايين الأكراد، وملايين العلويين الذين يمكن أن يستخدمهم أهل الغرب لإشعال فتيل الاقتتال الداخلي. وهناك دول تعادي تركيا ولديها الاستعداد لخوض حروب بالوكالة، أو إذا تسنى لها دعم تسليحي خارجي. ولتركيا أن تسأل نفسها من سيكون ظهيرها إن هي تعرضت لأزمات تهدد البلاد والعباد؟
وعليه من الأسلم لتركيا والشعب التركي أن يعيد النظر في الخطوات المكلفة التي تقوم بها حكومة إردوغان حاليا، وتعمل على تقليل الخلافات مع الدول المجاورة وإنهائها.