قراءة في خلفيات قرار “مجلس الأمن الدولي” 1559 الخاص بلبنان
د. ساسين عساف*
القرار 1559 (أقرّه مجلس الأمن في 2 أيلول 2004 بأكثرية تسعة أصوات وامتناع ستّة) له شقّان : شقّ داخلي (الاستحقاق الدستوري واحترام القواعد الديموقراطية. تجريد الميليشيات اللبنانية من السلاح والمقصود هنا هو سلاح حزب الله.) وشقّ إقليمي (انسحاب جميع القوات الأجنبية. تجريد الميليشيات غير اللبنانية من السلاح والمقصود هنا هو سلاح المخيّمات الفلسطينية)
- في 11 أيلول وجّه وليم بيرنز مساعد وزير الخارجية الأميركي آنذاك تحذيراً الى دمشق يقضي بضرورة انسحاب قوّاتها من لبنان .
- في 27 أيلول 2004 وتحت عنوان ” دعم الاستقلال السياسي للبنان ” أصدر الكونغرس الأميركي قراراً يطالب سوريا بسحب جميع قوّاتها فوراً من لبنان تنفيذاً لقرارات الأمم المتّحدة وتسهيلاً لاستعادة لبنان سيادته ووحدة أراضيه واستقلاله السياسي ويطالبها كذلك بوقف دعمها وتسليحها لمن يسمّيهم افتئاتاً جماعات إرهابية كحزب الله.
- أعقبه بعد أسبوع تقرير الأمين العام كوفي عنان.
- استتبع ببيان أصدرته رئاسة مجلس الأمن باجماع الأعضاء الخمسة عشر. رسم آليّة المتابعة لمراقبة التنفيذ مؤكّداً للقرار ودافعاً له وداعياً إلى وقف التدخّل السوري في الشؤون اللبنانية وسحب القوّات السورية من لبنان. هذا البيان كان أقوى من القرار لأنّه حظي بتأييد جميع أعضاء مجلس الأمن وكان بمثابة تذكير وتأكيد بأنّ الملفّ اللبناني/السوري لن يطوى وبأنّ لبنان وسوريا باتا تحت المراقبة المستمرّة.
الخلفية الأولى: القرار 1559 هو الوجه الآخر لقانون محاسبة سوريا.
لماذا؟
- لأنّ سوريا لم تمنع تسلّل “المخرّبين الارهابيين” (المقاومين العرب) من أراضيها الى العراق.
- لأنّه استهدف سوريا بعد العراق كما صرّح غير مسؤول أميركي كبير تنفيذاً لإقامة نظام شرق/أوسطي جديد ما كان ليفرض تغييراً أو تحجيماً لدور سوريا الاقليمي وإدخاله في سياق التبدّل الاستراتيجي الذي أحدثه احتلال العراق.
- لأنّه شكّل رسالة الى دمشق في غير ملفّ (العراقي، الفلسطيني، اللبناني، الصراع العربي/الصهيوني، الإصلاح الداخلي .. اتّفاق الشراكة الأوروبية الذي وقّعته سوريا والمفوّضية الأوروبية بالأحرف الأولى بعد أن تنازلت سوريا عن شرطها المسبق المتعلّق بأسلحة الدمار الشامل – أن توقّع حكومة الكيان الصهيوني مثل هذا النصّ – فقبلت النصّ مثلما هو، وثمّة من وجد في هذا القبول أولى تداعيات القرار 1559)
- لأنّه كان ليحوّل سوريا إلى طرف معزول يواجه الشرعية الدولية ونمطاً جديداً من العلاقات بين الدول والقوى العالمية وذلك في ظرف اختلّت فيه موازين القوى لصالح العدو الصهيوني فالنظام العربي الرسمي لم يكن فاعلاً والتفاهم السوري/المصري/السعودي لم يعد قائماً.
- لأنّه وضع سوريا أمام تحدّي قبول مطالب كولن باول التي قدّمها إلى دمشق في أثناء زيارته لها في 3 أيار عام 2003 والتي في حال تنفيذها كان النظام السوري ليفقد شرعيّته الوطنية والقومية. (مطالب باول: العراق ومراقبة الحدود، تبييض الأموال، الإرهاب، الأموال العراقية المجمّدة في المصارف السورية، التنظيمات الأصولية، أسلحة الدمار الشامل، إنسحاب الجيش السوري من لبنان..)
الخلفية الثانية: الوجه الآخر لمطالب حكومة الكيان الصهيوني
- يضرب العلاقات اللبنانية/السورية المميّزة. (إضعاف جبهة المواجهة)
- يطالب برأس المقاومة (حزب الله)
- يطالب بتجريد الفلسطيننين من السلاح. ( إسقاط حقّ العودة، والهدف هو التوطين وإشعال حرب جديدة بين اللبنانيين والفلسطينيين)
- يطالب بخروج الجيش السوري من لبنان. (زعزعة الاستقرار وإثارة الفتن الداخلية)
- ينزع الشرعية الدولية عن الدولة اللبنانية (تسهيل العدوان الصهيوني على لبنان وتغطيته)
- يضع إسفيناً في العلاقات اللبنانية/السورية (فصل المسارين واستفراد لبنان وجرّه إلى توقيع صلح منفرد ومذلّ مع الكيان الصهيوني)
- ينزع شرعيّة المقاومة التي يخوضها حزب الله في الجنوب والتي وافقت عليها فرنسا والولايات المتّحدة عبر إعلان ” تفاهم نيسان ” في العام 1996
الخلفية الثالثة: الوجه الآخر للتدويل وإسقاط الطائف والعودة بالوطن إلى أفهوم الساحة
- يشكّل تدخّلاً سافراً في شؤون لبنان الداخلية.
- يخرق المادتين 7 و 39 من ميثاق الأمم المتّحدة. (مجلس الأمن لا يحقّ له التدخّل في شؤون أيّ دولة ما لم تشكّل تهديداً للسلم والأمن الدوليين)
- يسقط معادلة الطائف التي قامت بتفاهم أميركي/ سوري ورعاية عربية وتأييد دولي عبّر عنه قرار مجلس الأمن 157/89 الصادر بتاريخ 11/7/89 وقرار مجلس الاتّحاد الأوروبي الصادر في 9/12/1989
- يبطل أيّ ضمانة دولية للوجود العسكري السوري في لبنان. ( ضرب الاستقرار في لبنان والعودة إلى الفتنة لأنّ الطائف أصبح دستوراً ومرتكزاً للوفاق الوطني وناظماً للعلاقات اللبنانية/السورية)
- يسقط الورقة اللبنانية من يديّ دمشق بعد أن سلّمها إيّاها الجانب الأميركي مكافأة لها على مشاركتها في حرب الخليج الأولى عام 1990- 1991
- يدوّل القضية اللبنانية بمعنى أنّه يفرض وصاية دولية على لبنان. تقاعس الجامعة العربية من جهة أولى وعدم تنفيذ الطائف من جهة ثانية سوّغا هذه الاستباحة (سحب التفويض السوري أو إبطال الوكالة، تحويل لبنان مجدّداً إلى ساحة لحروب الآخرين الاقليمية والدولية أي العودة بلبنان إلى مرحلة ما قبل العام 1975)
الخلفية الرابعة: الوجه الآخر لعقوبات كانت منتظرة
- يضع لبنان وسوريا تحت المجهر. جاء واضحاً في استهدافاته. لا يحتمل التفسير أو التأويل.
- ينطوي على مخاطر جمّة: (إنقسام داخلي، إعتداءات إسرائيلية،عزلة دولية ومواجهة مع العالم، ضغوط إقتصادية، عزوف الدول المانحة عن المساعدة، التأثير على التجديد للقوّة الدولية في الجنوب وعملها، إيغال لبنان في مآزق سياسية واقتصادية واجتماعية.)
الخلفية الخامسة: الوجه الآخر لاعتبارات وادّعاءات معكوسة
- دعا إلى تطبيق الديموقراطية وحماية الدستور!
- أبدى الحرص على سيادة لبنان واستقلاله وقراره الحرّ وسلامة أراضيه وحرّية أبنائه في رسم مستقبله السياسي!
- دعا إلى تطبيق الطائف (مقدّمة القرار والبنود 1و2 و3 و4 . مجلس الأمن يستذكر كلّ قراراته السابقة حول لبنان وبياناته الرئاسية. يدعم وحدة أرض لبنان وسيادته واستقلاله السياسي ضمن حدوده الإقليمية المعترف بها. يؤكّد أهمّية بسط سلطة الحكومة اللبنانية على التراب اللبناني كاملاً. يطالب بانسحاب القوات الأجنبية. يدعو إلى حلّ الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها.)
هذه الخلفيات بوجوهها المتعدّدة هي التي بني عليها القرار 1559 وهي التي منحت هذا القرار أهمّيته في مرحلة تاريخية حاسمة كان يعاد فيها النظر بجغرافية المنطقة سياسياً وأمنياً واقتصادياً وثقافياً لصالح المشروع الأمبراطوري الأميركي وتفرّعاته الاقليمية، الصهيونية الحليفة والعربية اللحيقة. لذلك،
واليوم بالذات، وربما أكثر من أي يوم مضى، يجب التعاطي مع هذا القرار باعتباره فصلاً من فصول تنفيذ هذا المشروع . وكلّ مقاربة تجزيئية له تبتعد بأصحابها عن حقيقة أهدافه وتوقعهم في خطأ تاريخي يرتدّ سلباً عليهم وعلى لبنان.
من قانون المحاسبة إلى القرار 1559 والسياسة الأميركية تسعى لضرب الموقع الثابت في وجه الكيان الصهيوني ومنعه من ابتلاع الحقّ العربي في الأرض وفي الكرامة.
لعنة الولايات المتّحدة تلاحق لبنان منذ كيسينجر مروراً بشولتز وليس انتهاء بباول وخليفته كوندوليسا رايس والآخرين حتى بلينكن. وفي كلّ مرّة كانت هذه اللعنة تضع لبنان في خطر جدّي…
أيفهم من كلّ ذلك أنّ أميركا مصرّة على تفجير لبنان؟
هل بدأت جولة جديدة ساخنة على أرض لبنان؟
لاعبو القرار 1559 يفرّطون بمصلحة لبنان.. ولهم نقول غيّروا أنفسكم بدلاً من أن تغيّروا لبنان حتى لا يجرفكم القرار إلى مستنقع الفتنة.. فالقبول بتنفيذ القرار يعني تصفية المقاومة ويعني الصدام بالفلسطينيين ويعني العداء لسوريا.. وهل ثمّة فتنة أفظع من هذه؟! هذا القرار ليس للبنان انّه للكيان الصهيوني فليحذر مؤّيدوه أفخاخه وهداياه المسمّمة.
ليحذروا الرهان على تنفيذه اليوم ولا يخدعوا أنفسهم بأن يقرأوا فيه إشارات سيادية ..
ليهدأ الجميع في خضمّ المخاطر المستفحلة فنحن اليوم أحوج ما نكون الى مبادرات لبنانية إنقاذيّة سريعة لأنّ الإتّكال على الخارج يضاعف عبء المخاطر التي تهدّد مصير الشعب والدولة.
* كاتب لبناني وعميد سابق لكلية الآداب والعلوم الانسانية في الجامعة اللبنانية