هل حقاً ستخرج الولايات المتحدة من سورية قريباً؟
د. إبراهيم علوش
هل كان تزامن إعلان الرئيس الأمريكي ترامب عن الانسحاب من سورية، “قريباً جداً”، بحسب قوله، مع مقتل جنديين مما يسمى “التحالف الدولي”، أحدهما أمريكي والآخر بريطاني، في منبج الخميس الفائت، من قبيل المصادفة يا ترى؟ وإذا أخذنا فرق التوقيت بين منبج وبين ولاية أوهايو الأمريكية حيث كان ترامب يلقي كلمته، ربما يكون قد تم إبلاغ ترامب بالحادثة قبل صعوده المنصة بقليل، إذا لم يكن قد تم تأخير الإعلان عن مقتل الجنديين يوماً أو يومين أصلاً..
العبرة هي أن تصريح ترامب الخميس الفائت، من خارج النص المكتوب، بأن الولايات المتحدة سوف تخرج قريباً جداً من سورية، ربما يكون فعلاً خطوة استباقية لقطع الطريق على أي عمليات استهداف لقوات الاحتلال الأمريكي في الشمال والشرق السوري، في منطقة يكثر فيها اللاعبون، و”تضيع فيها الطاسة” إن صح التعبير، ولا يعود من السهل تالياً توجيه إصبع الاتهام لطرف محدد باستهداف القوات الأمريكية، لا سيما أن من يتابع الإعلام التركي يجد لدى الأتراك حنقاً متزايداً من تواجد القوات الأمريكية ودورها في تأمين غطاءٍ لما يسمى “قوات سورية الديموقراطية” في المنطقة. وإذا كان الأمريكيون يستطيعون استخدام الميليشيات الكردية التابعة لهم في احتواء التقدم التركي في المنطقة عبر عمليات حرب العصابات، ومنها العمليات الأخيرة ضد الجيش التركي وأدواته في عفرين مثلاً، فكذلك يستطيع أن يفعل الأتراك مع الأمريكيين، من دون أن يؤثر أيٌ مما سبق في حق وواجب الدولة العربية السورية صاحبة السيادة على الأرض في التعاطي مع الاحتلالين الأمريكي والتركي للأرض السورية، ومع النزعتين الانفصالية والتكفيرية في المنطقة، بالطريقة التي تراها مناسبة، ضمن إيقاعها وتوقيتها الخاص.
اتفاق دوما لإخراج إرهابيي جماعة ما يُسمى “جيش الإسلام” (والإسلام منه براء)، لا يخرج كثيراً عن النص أعلاه، فجرابلس باتت منطقة نفوذ تركي بعد احتلالها، مثل الباب و إعزاز و دابق، ولذلك فإن تموضع آلافٍ من عناصر “جيش الإسلام” ذي الولاء والتمويل السعوديين في جرابلس، مقابل تموضع بقايا ما يسمى “فيلق الرحمن” و”أحرار الشام” في إدلب، لا شك أنه جاء بموافقة، لا بل بتشجيع، سعودي، كخطوة اعتراضية أمام تمدد نفوذ تركيا والجماعات الإخونجية في ريف حلب الذي تنتمي المناطق المذكورة أعلاه، وعفرين ومنبج، إليه.
تعزيز المواقع الأمريكية في منبج يأتي في الإطار ذاته، وكذلك تصريحات محمد بن سلمان لمجلة “تايم” الأمريكية بأن “القوات الأمريكية يجب أن تبقى في سورية في المدى المنظور لموازنة النفوذ الإيراني… وليكون للولايات المتحدة دورٌ في مستقبل سورية”. ولكن ما دام بن سلمان قد أقرّ في المقابلة نفسها مع “تايم” بأن “الأسد باقٍ”، مع أن بقاء الأسود لم يكن يوماً رهناً برضا الثعالب والأذناب، فإن ذلك يفرض على حكام السعودية أن يفكروا كيف يواجهون لا ما يسمونه “النفوذ الإيراني في سورية” فحسب، بل التمدد التركي أيضاً، ووضع قوات “جيش الإسلام” في جرابلس، المحاذية للحدود التركية تقريباً، والتي يشكل ريفها الشرقي خط تماس مع محيط عين العرب (الملقبة زوراً “كوباني”)، من المرجح أن يكون جزءاً من استراتيجية أمريكية-سعودية لاحتواء التمدد التركي وأدواته. فإذا كان دور السعودية سينحسر في ريف دمشق الشرقي، فلتكن “الجائزة التعويضية” تمدده في ريف حلب الشرقي، ابتداءً من جرابلس، أول نقطة يدخل عندها نهر الفرات، لا سيما أن محاولة نقل قوات “جيش الإسلام” إلى القلمون الشرقي رُفضت رفضاً باتاً من قبل الدولة السورية.
لا يهم كثيراً، في تلك الحالة، إن كان قد سُمح لـ”جيش الإسلام” أن ينقل الـ900 مليون دولار إلى جرابلس، التي طالب بنقلها معه خارج دوما، وحتى بعض أسلحته، لأنها ستكون جزءاً من “الوزن المقابل” للتمدد التركي، كما ستكون الأدوات التركية في ريف حلب وإدلب “وزناً مقابلاً” لها، في معادلة تصب في جيب الدولة السورية موضوعياً على المدى الاستراتيجي، لأن ذلك سوف يضرب المحتلين وأدواتهم بالمحتلين وأدواتهم، وصولاً إلى لحظة استعادة كل شبر من الأرض العربية السورية إلى حضن الدولة صاحبة السيادة عليها.
تنكشف، في هذه الأثناء، أوراقٌ كثيرة في “التحالف” المناهض لسورية الذي يضعف تماسكه وتتقهقر مواقعه يوماً بعد يوم. فها هو خالد مشعل يشيد “بالسيطرة التركية على عفرين”، ويعدّها “أنموذجاً للإرادة التركية”، مستحضراً “زعامة تركيا للأمة”، وهو ما يعبر عن سقطةٍ كبيرةٍ، حتى لو تجاهلنا كل ما بدر منه سابقاً إزاء سورية، ولو قفزنا من فوق “تبرعه بالسيادة السورية على عفرين لتركيا”، واستفزاز دعم الاحتلال التركي لعفرين بعد تشريد أهلها وقصفهم، أولاً في وقتٍ تحاول فيه “حماس” عبر وسطاء إعادة إحياء العلاقات مع سورية، وثانياً في وقتٍ تتصاعد فيه مواجهات شعبنا العربي الفلسطيني مع الاحتلال الصهيوني في فلسطين العربية المحتلة، مما يتطلب حشد كل القوى في مواجهة العدو الصهيوني. ولا بد من أن تقوم “حماس” بإعلان موقفٍ رسميٍ واضحٍ مما تفوه به مشعل، رئيس مكتبها السياسي السابق، لكي لا تبدو بادراتها الإيجابية الأخيرة إزاء سورية كلعبة توزيع أدوارٍ ليس إلا… مع العلم أن سورية التي تخوض معاركها السياسية على مستوى إقليمي ودولي معقد ليست “ابنة البارحة” حتى يتم التلاعب فيها من قبل هذا الفصيل أو ذاك، أما قضية فلسطين، فمسألة مختلفة تماماً بالطبع، وقد أعلن السيد الرئيس بشار الأسد، ومختلف مستويات القيادة السورية، التزام سورية بها كقضية أولى، وكجزء من هوية سورية الوطنية والقومية وكبرنامج سياسي، ولكن يبدو أن هناك من يصر على خلق شقاقٍ بين سورية وجناحها الجنوبي فلسطين، وهو ما يخدم طرفاً واحداً فقط سنترك للقارئ الكريم أن يحزر من هو.
وعلى الخط نفسه كانت الورقة الأخرى التي انكشفت خلال الأيام الفائتة المقابلة التي أجرتها قناة “أورينت” التي تبث من دبي مع مندوب الكيان الصهيوني الدائم في الأمم المتحدة داني دانون، والحقيقة أن تلك المقابلة كانت عبارة عن إعلان “إسرائيلي” طويل (38 دقيقة) عن “دور الكيان الصهيوني الإنساني” في سورية (في دعم العصابات التكفيرية المسلحة مالياً ولوجستياً؟)، و”حرصه على عدم التدخل في الشأن الداخلي السوري” (كما في دوره المباشر مع الميليشيات في منطقة القنيطرة خصوصاً، وحث الدول الغربية على التدخل عسكرياً في سورية؟)، و”رغبته في السلام” (كما عبر عن ذلك من خلال القصف الجوي والصاروخي دعماً للعصابات المسلحة؟)، ومجيء شخص كالسادات لرئاسة سورية (هذه نصدقها تماماً، لكنه “عشم إبليس بالجنة”)، إلخ… ومن الواضح أن المقابلة كانت إعلان علاقاتٍ عامةٍ عبر نافذة إعلامية دأبت على بث الفتنة الطائفية منذ بداية الحرب على سورية، مما يكشف حقيقة ما يسمى “معارضة سورية” وارتباطاتها، ومما يكشف بعضاً من التطبيع الذي تقوده دولة الإمارات مع العدو الصهيوني… وبالنسبة لنا، قلنا من قبل ونكرر: إما مع العدو الصهيوني أو مع الجمهورية العربية السورية ودولتها وجيشها وأسدها، وها هي مقولتنا تثبت صحتها من جديد…
وبالعودة إلى تصريحات ترامب عن انسحاب الولايات المتحدة من سورية، ومدى مصداقيتها، لا سيما بعد ما ذكره موقع “روسيا اليوم” في 1 نيسان الفائت من أن استهداف مواقع الجيش السوري والقوات الحليفة والرديفة في البوكمال لم يأتِ من “داعش” بل من الولايات المتحدة نفسها، وكنت قد تناولت في “تشرين” الأسبوع الفائت “احتمالية إعادة تفعيل عصابات “داعش” من قبل الدول الغربية من جزيرته الإرهابية في ريف حمص الشرقي عبر دعمها من مناطق “التحالف الدولي” الملاصقة لها تقريباً شرق الفرات، لا سيما عند نقطة عبور نهر الفرات من سورية للعراق، وربما يكون هناك تفعيل لأكثر من جبهة حدودية في آنٍ معاً، من القنيطرة في الجنوب الغربي، ومن “داعش” من الجنوب الشرقي”، فإن ما نرجحه هو أن ترامب متجه استراتيجياً للانسحاب من سورية، فلا خيار له سوى هذا، أما في المدى المنظور، فإنه يلعب، ويشتري الوقت، ويخلط الأوراق، عسى أن يصبح بقاء القوات الأمريكية في سورية “مطلباً”، والولايات المتحدة لن تخرج قريباً، لكنها تحاول أن تخلق أفضل الظروف، بالنسبة لها، لإعاقة النصر السوري القادم لا محالة، والمؤكد أن الولايات المتحدة لن تخوض المعارك البرية في سورية بصدرها المفتوح، بل بصدور حلفائها وأدواتها، والمؤكد أكثر أنهم جميعاً سيهزمون، كما هزموا من قبل، لتبقى راية سورية الأعلى والأبقى.
4/4/2018
“تشرين”